إرسال قريش سهيل بن عمرو لعقد الصلح
وفي حديث سلمة بن الأكوع قال: (بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوه، فلما رأى النبي سهيلاً قال: (قد سهل لكم من أمركم) يعني: تفاؤلاً باسمه، فأتى سهيل بن عمرو النبي ﷺ -يقول الزهري في حديثه- فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً يعني: هلم نعقد عقد المصالحة هذا؛ فدعا النبي ﷺ الكاتب).
قوله: (فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً) وفي راوية ابن اسحاق: (فلما انتهى إلى النبي ﷺ جرى بينهم القول -التصالح- حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم هذا).
وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقيل: لا تجاوز عشر سنين، استدلالاً بهذا الحديث، وهو قول الشافعي والجمهور، وقيل: تجوز الزيادة، وقيل: لا تجاوز أربع سنين، وقيل: ثلاثاً، وقيل: سنتين، والأول هو الراجح والله تعالى أعلم، وهو مذهب الجمهور ومنهم الشافعي أن المدة لا تزيد عن عشر سنوات، فدعا النبي ﷺ الكاتب -والكاتب هو علي رضي الله تعالى عنه- فقال له: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، يملي على علي أن يكتب نص عقد الصلح، فأملاه: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي! ولذلك قال تعالى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: ٣٠]، وهذا الكفر باسم الرحمن كان عناداً منهم، وإلا ففي أشعارهم ما يدل على أنهم يعرفون أن من أسماء الله عز وجل الرحمن.
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي! ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) (قاضى) بوزن فاعل من قضيت الشيء، أي: فصلت الحكم فيه، وفيه جواز كتابة مثل ذلك في المعاقدات، والرد على من منعه معتلاً بخشية أن يظن أنها نافية، نبه عليها الخطابي أي: أن بعض الناس كره استعمال كلمة: (هذا ما قاضى)؛ لأنه يمكن أن يفسرها أحد الطرفين بالنفي فيكون معناها: الذي لم يقاض عليه، لكن (ما) هنا ليست نافية، بل موصولة، (هذا ما قاضى) يعني: هذا الذي قاضى عليه، فهذا الحديث دليل على جواز استعمال عبارة: هذا ما قاضى عليه كذا وكذا.
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني)، هذا لن يغير في الحقيقة شيئاً، فبعد شهادة الله عز وجل لرسوله عليه السلام بالرسالة وبالشهادة وبالصدق، فهو مستغن عن شهادة غيره، فقال: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله).
قال الزهري: وذلك لقوله، يعني: تساهل معهم النبي ﷺ لأنه منذ البداية تعهد وأقسم: (والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، وما المقصود بحرمات الله؟ قلنا: يحتمل أن تكون حرمة الإحرام، وحرمة الشهر، وحرمة البدن، وقلنا: إن هذا القول مرجوح، والمقصود بالحرمات هنا صلة الرحم وحقن الدماء، وإلا فجميع العلماء يقولون: إن الرسول ﷺ عندما أقسم وقال: (والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله) فالواو هنا بمعنى الفاعل، والمراد: المشركين، لو كانوا يعظمون الإحرام أو الحرم أو الشهر ما كانوا صدوهم من الأصل، ولكن المقصود بالحرمات هنا: صلة الرحم والقرابة بينهم وبين المسلمين.
وبسبب أن الرسول ﷺ كان قد أقسم وقال: (لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) فلأجل ذلك تساهل معهم، وتجاوز عن كتابة البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، وتجاوز عن إثبات (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله).
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) يعني: من شروط الاتفاق: أن تتركونا ولا تحولوا بيننا وبين الطواف في البيت وأداء العمرة، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة.
هذه هي حمية الجاهلية، يعني: كيف يشيع في العرب أنكم أتيتم وأكرهتمونا على أن تأتوا وتعتمروا، لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة أي: قهراً، وفي رواية ابن إسحاق: أنه دخل علينا عنوة.
قال: ولكن ذلك من العام المقبل، يعني: العام المقبل تأتونا، ونسمح لكم بدخول مكة لأداء العمرة، فكتب.
فقال سهيل - وهذه مادة أخرى من مواد الاتفاق-: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.
أي: من شروط المعاهدة أن أي رجل من قريش يأتي النبي ﷺ في المدينة حتى لو كان مسلماً فتتعهد أن ترده إلينا.
وفي رواية ابن إسحاق: على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن يتبع محمداً ﷺ لم يردوه عليه.
وفي الظاهر هذا فيه غاية الإجحاف بالنسبة للمسلمين، يعني: أنهم اشترطوا عليه: أنه لو أتاك رجل من مكة إلى المدينة مهاجراً مسلماً فلا بد أن ترده إلينا، ومن أتانا من عندك لا نرده إليك؛ فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟! كيف نوافق على هذا البند المجحف؟ كيف نرد رجلاً أتانا من المسلمين إلى المشركين وقد جاءنا مسلماً؟! يقول الحافظ رحمه الله تعالى: زاد ابن إسحاق في قصة الصلح بهذا الإسناد: (وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة) يعني: أمراً مطوياً في صدور سليمة، فتترك المؤاخذة لما تقدم بينهم من أسباب الحروب وغيرها، كأنه قال: عفا الله عما سلف لما حصل بيننا من الحروب والاحتكاكات، ونحافظ على العهد الذي وقع بيننا.
قال: (وأنه لا إسلال ولا إغلال) يعني: لا سرقة ولا خيانة، والمراد أن يأمن بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سراً وجهراً.
وقال ابن إسحاق في حديثه: (وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه) يعني: من القبائل التي تريد أن تتحالف مع الرسول عليه السلام أو مع قريش.
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.
قال: (وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة علينا، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها في أصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيره).
قال ابن إسحاق: فبينما رسول الله ﷺ يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل، وقد قال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو: يعني: ابن سهيل بن عمرو نفسه، وكان قد حبسه في مكة، وكان يعذبه عذاباً شديداً لأنه أسلم، فبينما هم يتباحثون هذه المباحثات إذا بـ أبي جندل بن سهيل بن عمرو قد هرب من المحبس الذي حبسه فيه، وجاء يركض في أغلاله، وهي أغلال ثقيلة كانت عليه، وهو يمشي ببطء حتى ألقى نفسه أمام النبي عليه السلام وأمام الصحابة.
يقول: فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يركض في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل أبوه: هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد) قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فأتيت نبي الله ﷺ فقلت: (ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: فعلام نعطي الدنية في ديننا إذاً؟! قال: إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري، قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به).
قال عمر: (فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا إذاً؟! قال: أيها الرجل! إنه لرسول الله ﷺ وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فوالله! إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً.
أي: هذا الموقف كان عمر يندم عليه؛ لأنه راجع الرسول عليه السلام هذه المراجعة ولم يسلم وينقاد لحكمه من أول وهلة، فاعتبر هذه معصية، فأخذ يكثر من الأعمال الصالحة حتى تكفر عنه ما فعله في هذا الم


الصفحة التالية
Icon