رد النبي ﷺ لأبي جندل أثناء الصلح
قوله: (فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل) جندل على وزن جعفر، وكان اسمه العاصي فغيره عندما أسلم، وهذه سنة، فالأسماء المنفرة أو القبيحة من السنة أن تغير إلى اسم أفضل، فهذا الرجل أبو جندل كان اسمه العاصي فغيره عندما أسلم، ولزمته هذه الكنية: أبو جندل، وله أخ اسمه عبد الله أسلم قديماً، وحضر مع المشركين بدراً ففر منهم، وانضم إلى جيش المسلمين في بدر، ثم كان معهم بالحديبية، واستشهد عبد الله باليمامة قبل أبي جندل بمدة، وأما أبو جندل فكان حبس بمكة ومنع من الهجرة وعذب بسبب الإسلام.
وفي رواية: (فإن الصحيفة لتكتب إذ طلع أبو جندل بن سهيل وكان أبوه حبسه فأسلم).
وفي رواية عن عروة: (وكان سهيل أوثقه وسجنه حين أسلم، فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين، ففرح به المسلمون وتلقوه، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل يرسف) يعني: يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد، فإنه ثقيل، فهذا معنى (يرسف) يعني: يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد، فقال سهيل: هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، وفي رواية ابن إسحاق: فقام سهيل بن عمرو إلى أبي جندل -ابنه- فضرب وجهه وأخذ يلببه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد)، قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، من الإجازة يعني: استثنيه أو سامح في هذا، وفي بعض الروايات: (فأجره لي).
وفيه: أن الاعتبار في العقود بالقول ولو تأخرت الكتابة والإشهاد، فالعبرة باللفظ حتى لو تأخرت الكتابة عن الكلام والإشهاد، ولأجل ذلك أمضى النبي ﷺ لـ سهيل الأمر في رد ابنه إليه، وكان النبي ﷺ قد تلطف معه بقوله: (لم نقض الكتاب بعد) رجاء أن يجيبه لذلك، ولا ينكره بقية قريش لكونه ولده، فلما أصر على الامتناع تركه له؛ لأنهم كانوا قد اتفقوا على هذا البند.
قال: (فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل)، هذا نوع من التلطف به والإلحاح (بلى فافعل) قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بلى قد أجزناه لك، ومكرز كان شريكاً له في الوفد المفاوض، وليس معنى قوله: (أجزناه لك) أن نتركه عندك، لا، فالمعنى: نأخذه لكن لا نعذبه، فالتزموا على أنهم لا يعذبوه، فهو أراد أن يظهر أنه ليس متصفاً بالصفة التي أخبر عنه النبي عليه السلام بقوله: (وهو رجل فاجر)، فهو يريد أن يقول أنه ليس بفاجر، وأنه موافق على أن يجيبه.
قال أبو جندل: (أي معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله).
زاد ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل! اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً).
يعني: ما دمنا عقدنا عقداً فلا بد أن نلتزم به؛ لأن الرسول عليه السلام لم يوافق على أنه إذا جاءه مسلم يقهره على أن يعود إلى الكفر، لكن هو فقط لا يقبله التزاماً بهذا العقد، ووفاءً بالقسم الذي أقسمه أنهم لا يدعونه إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله إلا أجابهم إليها، فقال: (يا أبا جندل! اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً).
وفي رواية أبي المليح: (فأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، عمر اقترب منه وأخذ يقول له: اصبر فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب، ويدني بقائم السيف منه؛ يحرضه ليأخذ السيف ويضرب به أباه، فانظر إلى هذا الفعل من عمر! فـ عمر كان لا يستطيع أن يصرح له بقلته احتراماً للعهد، وحتى لا يغدر، فهو يعرض له بطريقة غير صريحة، حتى لا يكون ذلك طعناً في العقد.
قال: (فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب قال: ويدني قائم السيف منه، قال عمر: رجوت أن يأخذه مني فيضرب به أباه؛ فضن الرجل بأبيه) يعني: بخل بأبيه، وعز عليه أن يقتل أباه.
قال الخطابي: تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما: أن الله قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم تمكنه التورية، يعني: السبب أن الرسول عليه السلام رده إليهم أن له سعة ورخصة في أن يتقيهم كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦]، فيستطيع أن يستعمل التقية أو التعريض والتورية بحيث يوهم أنه ما زال مثلهم؛ حتى لا يصيبه الأذى الذي يصيبه، يعني: له سعة ورخصة في أن يكف عنه الأذى عن طريق التورية والتعريض، فلم يكن رده إليهم تسليماً لـ أبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية.
الوجه الثاني: أنه إنما رده إلى أبيه، وغالب الظن أن أباه لا يبلغ به الهلاك، ومهما عذبه فلن يبلغ به إلى حد أن يهلكه.
وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به عباده المؤمنين، واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلماً من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم لما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وأن الذي وقع في قصة الحديبية منسوخ، وأن ناسخه حديث: (أنا بريء من كل مسلم أقام بين ظهراني المشركين)، هذا قول الحنفية، وعند الشافعية تفصيل: فالعاقل يرد، والمجنون والصبي لا يردان، وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب، والله تعالى أعلم.