تفسير قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الفتح: ١١]: قال الألوسي: قال مجاهد وغيره: المخلفون من الأعراب: هم جهينة ومزينة وغفار وأشجع والديل وأسلم، والمقصود: أن هذه القبائل استنفرها رسول الله ﷺ حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً لتخرج معه؛ لأنه توقع أن تعرض له قريش بحرب أو أن يصدوه عن المسجد الحرام، وأحرم هو ﷺ وساق معه الهدي؛ ليعلن للمشركين أنه لا يريد حرباً، ورأى أولئك الأعراب المخلفون أنه ﷺ يستقبل عدداً عظيماً من: قريش، وثقيف، وكنانة، والقبائل المجاورة لمكة وهم: الأحابيش، ولم يكن الإيمان تمكن في قلوب هؤلاء الأعراب؛ فقعدوا عن النبي ﷺ وتخلفوا، وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوهم في عقر دارهم بالمدينة، وقتلوا أصحابه فنقاتلهم! إذا كان هؤلاء قد غزوه في عقر داره -يقصدون بذلك غزوة أحد وقد كانت في السنة الثالثة من الهجرة والحديبية كانت بعد ذلك بثلاث سنين في السنة السادسة من الهجرة- فلن يرجع محمد ﷺ ولا أصحابه من هذه السفرة، سيذهبون إلى مكة وسوف يستأصلهم المشركون استئصالاً بحيث لا يبقى منهم أحد، فهذا هو ظن السوء الذي ظنوه كما بين الله تبارك وتعالى، ففضحهم الله تعالى في هذه الآية: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا)، وأعلم رسول الله ﷺ بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، يعني: قبل أن يعود إليهم ويقابلهم أوحى الله سبحانه وتعالى إليه بما قالوه وبما سوف يقولونه؛ ولذلك جاءت الآية: (سيقول) في المستقبل (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا) فلما وصلوا إليه كان الأمر كذلك، ووقع فعلاً ما أخبر به الله سبحانه وتعالى.
والمخلفون: جمع مخلف، وهو: المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد، مأخوذ من الخلف وضده: المقدم، فالمقدم يكون من الأمام، والمخلف: الذي يترك في المكان خلف الخارجين من البلد.
والأعراب هم: سكان البادية من العرب لا واحد له، أي: سيقول لك المتروكون الغير خارجين معك معتذرين إليك: شغلتنا -عن الذهاب معك- أموالنا وأهلونا، إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ الأموال والأهل ويحميها عن الضياع، ولعل ذكر الأهل بعد الأموال هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ لأنه لا شك أن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال، فهذا ترقي من الأدنى إلى الأعلى: (شغلتنا أموالنا وأهلونا).
(فاستغفر لنا) يعني: استغفر لنا الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك، حيث لم يكن لنا بد في طاعتك، وإنما كان ذلك الداعي وهو أننا خفنا على أموالنا وأهلينا.
يقول الله سبحانه وتعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) وهذا هو النفاق المحض: أن يتغاير اللسان والقلب، فكلامهم خارج من طرف لسانهم، غير مطابق لما في القلوب والجنان، وهذا الكذب والإفك المشار إليه في قوله تعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) فهذا الكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم أنه لضرورة، فهذا كان كذباً منهم أنهم تخلفوا لأجل ضرورة داعية إلى التخلف، وهي القيام بمصالحهم التي لابد منها، وعدم وجود من يقوم بها لو ذهبوا مع النبي ﷺ حين استنفرهم.
كذلك (فاستغفر لنا) يتضمن اعترافهم بأنهم مذنبون، وأن دعاءه لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم، والكذب هو أن حالهم لا يطابق الواقع بحسب الاعتقاد.
قال ابن كثير: (فاستغفر لنا) ذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد، يعني: ليس على سبيل أنهم فعلاً راغبون في استغفار النبي عليه الصلاة والسلام لهم، حتى يعود عليهم بالعفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالى، وإنما هو تقية ومصانعة، فهم في الحقيقة لا يقولون ذلك على سبيل الاعتقاد.
قال القاسمي: قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: ١١] تكذيب لهم في اعتذارهم، وأن الذي خلفهم ليس الذي يقولون.
إذاً: هذا الاعتذار الذي يدعونه هم كاذبون فيه، والذي خلفهم ليس هو قولهم: (شغلتنا أموالنا وأهلونا)، وإنما الذي خلفهم هو الشك في الله والنفاق.
كذلك أيضاً طلبهم الاستغفار: (فاستغفر لنا) ليس صادراً عن حقيقة؛ لأنه صادر بألسنتهم بغير توبة منهم ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف، وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به ما لم يكن مترجماً عن الاعتقاد الحق.
قال تعالى: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: لا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم تعالى وتقدس، وهو العليم بسرائركم وضمائركم وإن صانعتمونا وتابعتمونا، ولهذا قال: (بل كان الله بما تعملون خبيراً).
قال القاسمي: أي: لا أحد يمنعه تعالى من ذلك؛ لأنه لا يغالبه غالب؛ إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم؛ ولذا هددهم بقوله: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) أي: فيجازيكم عليه.
قوله تعالى: (قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً) قيل: ضراً يعني: أمراً يضركم كهزيمة أو غير ذلك، أو أراد بكم نفعاً أي: نصراً وغنيمة، وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول ﷺ يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع.
((قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) يقول الألوسي: وحاصل معنى الآية: قل لهم: لا أحد يدفع ضره ولا نفعه تعالى، فليس الشغل بالأهل والمال عذراً، فلا ذاك ينفع الضر إن أراد الله عز وجل، ولا مواجهة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعاً.
يعني: هذا الجواب جامع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: (قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً) يعني: إذا بقيتم في أموالكم وأهليكم خشية ضياعها، فهل هذا التخلف يجلب لكم نفعاً؟ كلا، بل لو أراد الله أن ينزل بكم الضر وبأهليكم وبأموالكم وأنتم في وسطهم لما رد قضاء الله سبحانه وتعالى راد.
كذلك أنتم تظنون أن الخروج مع النبي عليه الصلاة والسلام يضركم بهزيمة أو بقتل أو بنحو ذلك، فلو شاء الله سبحانه وتعالى أن يقدر نصراً وغنيمة فلا راد لقضائه، مع أنكم تحسبون أنه خروج إلى هلكة، فهذا هو المعنى: فلا أحد يدفع ضر الله ولا نفعه، فليس الشغل بالأهل والمال عذراً، فلا ذاك يدفع الضر إن أراده الله عز وجل، ولا موافقة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعاً، وهذا كلام جامع في الجواب، وفيه تعريض بغيرهم من المبطلين.
ثم ترقى سبحانه وتعالى إلى ما يتضمن تهديداً في قوله: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) يعني: بكل ما تعملون خبيراً، فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه، ويجازيكم على ذلك.