تفسير قوله تعالى: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً)
قال تبارك وتعالى: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ [الفتح: ١٢].
(بل ظننتم) يعني: في الحقيقة ليس الأمر كما زعمتم بأنكم شغلتكم أموالكم وأهلوكم، ولكن الحقيقة أشد من ذلك: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً) والظن اسم لما يحصل عن الوهم، ومتى قوي أدى إلى العلم، ومتى ضعف جداً لم يتجاوز حد التوهم، فكلمة الظن تستعمل في أكثر من استعمال، أحياناً تستعمل بمعنى: اليقين، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] أي: يوقنون، وقال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ﴾ [البقرة: ٢٤٩] إلى آخر الآية، فهذه بمعنى اليقين.
وقال تعالى: ﴿أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ [المطففين: ٤]؛ لأن المعنى: ألا يكون منهم ظن لذلك؟ تنبيهاً على أن أمارات البعث ظاهرة، وفي هذا ذم لهم.
كذلك قال تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠] أي: إني أيقنت، وقوله: ﴿فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: ٥٣] هذا أيضاً يقين، وقال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد يعني: أيقنوا.
وقوله تعالى: ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ [القيامة: ٢٨] يعني: أيقن أنه الفراق، أي: فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة.
فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق إذاً: أصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد الأمرين، وقد يقع موقع اليقين كما في الآيات التي ذكرناها.
قوله تبارك وتعالى: ((بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا)) أي: لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاقل أو مؤمن كسول كالثلاثة المخلفين في غزوة تبوك، لا، (بل ظننتم) يعني: لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، وإنما هو تخلف نفاق، وهذا أشد من المعصية إذ اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم، وتستباح خضراؤهم، ولا يرجع منهم مفلت.
وقال القرطبي: وذلك أنهم قالوا: إن محمداً ﷺ وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون.
وقولهم (أكلة رأس) كناية عن القلة، أي: أنهم يكفيهم رأس واحد، لو اجتمعوا ليأكلوا فسيأكلون شاة واحدة، وهذا كناية عن قلة العدد، فهؤلاء خرجوا ليقابلوا الأحابيش في قريش وثقيف وكذا وكذا، فسوف يستأصلونهم ويقضوا عليهم قضاءً، ولا يبقى أحد منهم ليخبر عنهم، وهذا سوء ظن بالله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا لا يمكن أن يقع أبداً، ولا يمكن أبداً أن يتصور أن المؤمنين يستأصلون بحيث لا يبقى للإيمان ولا للإسلام أحد، فهذا لا يقع أبداً أبداً، فهذا هو ظن السوء الذي عيرهم الله سبحانه وتعالى به، فهم قالوا: إن محمداً وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون، يعني: هم قليل يشبعهم رأس واحد.


الصفحة التالية
Icon