تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: ١٦] قول الله سبحانه وتعالى في هذا الوعيد: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) هذا وعيد لمن يتولى عن الجهاد، وخص الله من هذا الوعيد واستثنى أصحاب الأعذار وإن حدثت أعذارهم بعد التخلف الأول، فقال عز وجل: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: ١٧].
بعد أن ساق الله سبحانه وتعالى الوعيد في حق المخلفين ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد.
يقول ابن كثير: ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد، فمنها: لازم -عذر لازم- كالعمى والعرج المستمر، وعارض -يعني: من الأعذار ما يكون عارضاً يطرأ ثم يزول- كالمرض الذي يطرأ أياماً ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ.
ثم قال تعالى مرغباً في الجهاد وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ)) أي: ينكل عن الجهاد ويقبل على المعاش: ((يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)) في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار.
قال الرازي: اعلم أن طاعة كل واحد منهما طاعة للآخر، طاعة الله هي طاعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وطاعة الرسول هي طاعة الله كما قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠]، فجمع بينهما هنا بياناً لطاعة الله تبارك وتعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، فإن الله سبحانه وتعالى لو قال: ومن يطع الله يدخله جنات لكان لبعض الناس أن يقول: نحن لا نرى الله، ولا نسمع كلامه، فمن أين نعلم أمره حتى نطيعه؟ فقال: طاعته في طاعة رسوله، وكلامه يسمع من رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: ((وَمَنْ يَتَوَلَّ)) أي: بقلبه.
ثم لما بين حال المكلفين بعد قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: ١٠] عاد إلى بيان حالهم وقال: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: ١٨].
قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال ابن عباس: (لما نزلت: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) قال أهل الزمانة -يعني: الأمراض المزمنة المستمرة-: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت: ((لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ))) أي: لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد؛ لعماهم وزمانتهم وضعفهم.
وقال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم، يعني: من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل، هؤلاء يمكن أن يسيروا معكم إلى خيبر بخلاف المخلفين.
وقال أبو حيان: هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو، ومع ارتفاع الحرج فدائم لهم الغزو، يعني: هم معذورون عند الله، ومع ذلك يجوز أن يخرجوا في الغزو وأجرهم فيه مضاعف، والأعرج أحرى بالصبر وألا يفر؛ لأن الذي يستطيع الجري قد يفر بسهولة؛ لأنه يستطيع الجري، أما الأعرج فإنه أحرى أن يصبر ويثبت لعرجه.
وقد غزا ابن أم مكتوم رضي الله عنه وكان أعمى في القادسية، وكان رضي الله عنه يمسك الراية، فلو حضر المسلمون فالغرض متوجه بحسب الوسع في الغزو.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) يعني: فيما ذكر من الأوامر والنواهي ((يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ)) أي: عن الطاعة ((يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)) لا يغادر قدره.
والمعني بالوعد والوعيد هنا أعم من المعني بهما فيما سبق، كما ينبئ عن ذلك التعبير بـ (من) هنا، وبضمير الخطاب هناك في الآية الأخرى: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)).
فهذه الآية مخاطب بها طائفة معينة، فالصيغة عامة قال تعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)).