ذكر ما روي في سبب نزول الآية
وهنا تنبيهات: الأول: يقول الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله ﷺ على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية مالك عن ابن المصطلق وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق قال: حدثنا عيسى بن دينار قال: حدثنا أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة؛ فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان -أي: الأجل- الذي أراد رسول الله ﷺ أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدعا بسروات قومه -يعني: بأشرافهم- فقال لهم: إن رسول الله ﷺ وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله ﷺ الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله ﷺ الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق -يعني: خاف- فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فجرد رسول الله ﷺ البعث إلى الحارث.
فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك.
قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله ﷺ كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا، والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا رآني، ولا أتاني.
فلما دخل الحارث على رسول الله ﷺ قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله ﷺ خشيت أن كانت سخطة من الله تعالى ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: ٦]).
هذا الحديث رغم شهرته إلا أنه لا يصح، وإنما تلوناه بطوله كي تنتبهوا إلى هذا، فإن هذا الحديث ضعيف، ورواه أيضاً الطبراني وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف، فالحديث ضعيف وإن كان مشهوراً على ألسنة الخطباء.
وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله ﷺ الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك.
وزاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يتعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال قتادة: فكان رسول الله ﷺ يقول: (التثبت من الله، والعجلة من الشيطان) وهذا حديث صحيح.
وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم: ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل وغيره في هذه الآية: أنها نزلت في الوليد بن عقبة والله تعالى أعلم.
وقال ابن قتيبة في المعارف: الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه، وأمه أروى بنت شريح، أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله ﷺ متصدقاً إلى بني المصطلق، فأتاه فقال: منعوني الصدقة.
وكان كاذباً؛ فأنزل الله هذه الآية.
وولاه عمر على صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلى بأهلها صلاة الفجر وهو سكران أربعاً، وقال: أزيدكم؟ فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان، فعزله وحدَّه، ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي فخرج إلى الرقة فنزلها، واعتزل علياً ومعاوية ومات بناحية الرقة.