تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم عليم حكيم)
ثم يقول تبارك وتعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات: ٧ - ٨] يقول شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله! أن فيكم رسول الله، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقومه على الصواب في أموره.
أي: فوجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بينكم ليس بالأمر الهين، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل أو تفتروا الكذب، فإن الله يوحي إليه ويخبره بأخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقومه على الصواب في أموره.
((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)).
يقول الطبري: أي لو كان رسول الله ﷺ يعمل في الأمور بآرائكم، ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم؛ لنالكم عنت يعني: شدة ومشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم؛ لأنه كان يخطئ في أفعاله لو أنه بنى أفعاله وتصرفاته على كلامكم، لأنكم غير معصومين، كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق -يعني: إذا صح هذا الحديث- أنهم قد ارتدوا، ومنعوا الصدقة، وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله، وأخذتم ما لا يحل لكم وله أخذه من أموال قوم مسلمين؛ فنالكم من الله بذلك عنت، والعنت: المشقة أو الهلاك أو الإثم أو الفساد.
وقيل: إن قوله تعالى: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) مستأنف، ورد ذلك الزمخشري بأن قال: يمتنع هذا الاحتمال لأدائه إلى تنافر النظم.
يعني أنه لو اعتبر (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ) كلاماً مستأنفاً لم يأخذ الكلام بحجز بعض؛ لأنه لا فائدة حينئذ في قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) إذا قطع عما بعده.
وأجيب عن كلام الزمخشري بجواز أن يقصد به التنبيه على جلالة محله صلى الله عليه وسلم.
أي فنقرأ: (واعلموا أن فيكم رسول الله) ونقف عليها، وذلك على القول بأن ما بعده مستأنف، وهو قوله: (لو يطيعكم).
وعلى التفسير الثاني: يكون المقصود بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) إعلامهم بقدرة وجلالة محله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لجهلهم بمكانه مفرطون فيما يجب له من التعظيم، وفي أن شأنهم أن يتبعوه مادام فيهم، ولا يتبعوا آراءهم حتى كأنهم جاهلون بأنه بين أظهرهم، وبهذا يتبين جواز الاستئناف والوقف على رسول الله.
إذاً يجوز وصل: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)) ويجوز الوقف فتقول: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ)) ثم تبدأ فتقول: ((لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)).
قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي: فما أجدركم أن تطيعوا رسول الله ﷺ وتأتموا به، فيقيكم الله بذلك من العنت الذي كان سيقع عليكم فيما لو استتبعتم رأي رسول الله ﷺ لرأيكم.
(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) أي كره إليكم الكفر بالله، والفسوق: الكذب، والعصيان: مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضييع ما أمر الله به.
(أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي: أولئك هم الموصوفون بمحبة الإيمان وكراهة غيره.
والمعنى أن هؤلاء الذين حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان (هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي: السالكون طريق الحق.
والراشدون: من الرشد، والرشد هو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، يعني: شدة تمسك به، والرشاد الصخرة.
قوله: (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) أي: إحساناً منه ونعمة أنعمها عليكم.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: ذو علم بالمحسن والمسيء، وحكمة في تدبير خلقه وتصريفهم فيما شاءه من القضاء.