ذكر الإمام الرازي لما في ترتيب سورة الحجرات من معنى
يقول الرازي: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي: إما مع الله تعالى أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس.
يعني: هذه السورة بالذات تسمى سورة الآداب؛ لأنها فيها إرشاداً إلى مكارم الأخلاق، إما مع الله تعالى، وإما مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس.
قال: وهم على صنفين؛ لأنه إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين، وداخلين في رتبة الطاعة، أو مؤمنين لكن خارج الطاعة، والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم، إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم.
فهذه خمسة أقسام: أحدها يتعلق بجانب الله، والثاني يتعلق بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، والثالث يتعلق بجانب الفساق، والرابع يتعلق بالمؤمن الحاضر، والخامس يتعلق بالمؤمن الغائب.
فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة، فقال أولاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: ١]، فهذا الجانب يتعلق بجانب الله، وبالأدب مع الله؛ لأن المقصود بكلمة (ورسوله) بيان طاعة الله؛ لأن طاعة الله لا تعلم إلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠].
وقال ثانياً فيما يتعلق بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: ٢] لبيان وجوب احترام النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ثالثاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: ٦]، لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوال الفساق، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبين ذلك عند تفسير قوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: ٩].
وقال رابعاً فيما يتعلق بالمؤمن الحاضر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ [الحجرات: ١١]، وقال: ﴿وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾ [الحجرات: ١١]، لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم، والإزراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامساً فيما يتعلق بالأدب مع المؤمن الغائب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢]، وقال: ﴿وَلا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: ١٢]، وقال: ﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات: ١٢]، لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى.
وهو في غاية الحسن من الترتيب.
فإن قيل: لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة؟ أي: فما الحكمة أنه أتى بالفاسق بعد الله والرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة؛ فالابتداء بالله ورسوله ثم بالمؤمن الحاضر ثم بالمؤمن الغائب ثم بالفاسق؟ قال: نقول: قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله ثم جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه، فإنه يذكر كلما كان أشد نفاراًً للصدور.
أي: فالقتال والفتنة بين المؤمنين التي تترتب على تصديق خبر الفاسق أشد، فلذلك قدمها قبل ذكر المؤمن الغائب أو الحاضر.
وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتال، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال، فقال: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: ٩]، وما الذي يتسبب في الاقتتال بين المؤمنين؟ أنهم يقبلون خبر الفاسق ويعتمدون عليه، فيحصل بينهم هذا الاقتتال، أما المؤمن الحاضر أو المؤمن الغائب فمهما بلغ من الأذى فإنه لا يصل إلى حد فتنة الاقتتال.
والله أعلم.