معنى المبالغة في قوله: (بظلام) ونفي الظلم عن الله
أخيراً: ذكروا في قوله: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) سر المبالغة في كلمة: ((بظلام)) فقالوا: إن المراد بالمبالغة نفي الظلم من أصله.
وهنا إشكال: بعض الناس قد يسأل سؤالاً ويقول: لفظة (ظلام) صيغة مبالغة، ومعلوم أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله، فعندما تقول: فلان ليس ضراباً لنساء أو لأولاده، فهذا لا يستلزم نفي الضرب من أصله، لكن يستلزم نفي الضرب الكثير، أي: قد يحصل الضرب منه لكنه قليل! لكن عندما تقول: فلان ليس ضارباً لأولاده؛ فهذه الصيغة تستلزم نفي الفعل من أصله.
وفي الحديث: (المؤمن ليس بلعان) أي: لا يكثر اللعن، لكن قد يقع منه اللعن في مواضعه السائغة شرعاً، لكن لا يغلب عليه، قولك مثلاً: زيد ليس بقتال للرجال، فهذا لا ينفي إلا المبالغة في القتل، فهو ربما قتل بعض الرجال.
فقبل أن نناقش هذا السؤال أو هذه الشبهة التي تشكل على بعض الناس فيقولون: الله سبحانه وتعالى نفى المبالغة في الظلم فهل يستلزم ذلك أن يصدر منه ظلم قليل؟ قبل الإجابة لابد أن نقول: إن القاعدة الراسخة والأساسية في تفسير هذه الآية: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) أن المراد بها نفي الظلم من أصله.
أما الجواب عن الإشكال في صيغة المبالغة فمن وجوه: أولاً: أن نفي صيغة المبالغة في الآية المذكورة قد بينت آيات كثيرة أن المراد به نفي الظلم من أصله، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فنفي صفة المبالغة يمكن أن يدل على نفي الصفة من أصلها إذا قامت أدلة منفصلة على أن هذا ذلك المراد، ففي هذه الحالة لا يكون هناك إشكال، فيتحتم تأويل قوله: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) بأن المعنى: وما أنا بذي ظلم للعبيد.
ومن الأدلة على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ [النساء: ٤٠] وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: ٤٤]، وقال تعالى: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩]، وقال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء: ٤٧] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى نفى ظلمه للعبيد، والعبيد في غاية الكثرة، وذلك يستلزم كثرة الظلم المنفي عنهم.
أي: فالظلم منفي عن كثير من الناس، فيستلزم ذلك كثرة الظلم المنفي عن هؤلاء العباد.
فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة، للدلالة على كثرة الظلم المنفي التابعة لكثرة العبيد المنفي عنهم الظلم، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ولو قليلاً كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة كما ترى، وبذلك تعلم اتجاه الإتيان بصيغة المبالغة، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم عن كل عبد من أولئك العبيد الذين هم في غاية الكثرة، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحداً شيئاً.
الوجه الثالث: أن عذابه تبارك وتعالى بالغ الغاية من العظم والشدة، بحيث لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم ومعاصيهم لكان معذبهم به ظلاماً بليغ الظلم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لكن ليس فيه ظلم على الإطلاق بل هو عدل؛ لأنهم استحقوا ذلك بكفرهم.
الوجه الرابع: ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين: وهو أن المراد بالنفي في قوله تعالى: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) نفي نسبة الظلم إليه سبحانه، وأنها تعني: وما أنا بذي ظلم للعبيد، أي: فلا ينسب إلي ظلم على الإطلاق؛ لأن صيغة (فعَّال) تستعمل مراداً بها النسبة فتغني عن ياء النسبة كما أشار إليه في الخلاصة بقوله: ومع فاعل وفعَّال فَعِل في نسب أغنى عن الياء فقبل بمعنى: أن هذه الصيغ الثلاث المذكورة في البيت وهي: (فاعل كظالم، وفعَّال كظلَّام، وفَعِل كفَرِح) كل منها قد تستعمل مراداً بها النسبة، فيستغنى بها عن ياء النسبة.
ومثاله في (فاعل) قول الحطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فالمراد بقوله: فإنك أنت الطاعم الكاسي النسبة، أي: فإنك أنت ذو طعام وذو كسوة.
وقول الآخر، وهو من شواهد سيبويه: وغررتني وزعمت أنـ ـك لابن في الصيف تامر يظهر أن شخصاً غر آخر استضافه وأوهمه أنه في الصيف سيكون عنده تمر ولبن، فلما ذهب معه لم ير شيئاً.
غررتني: أي: خدعتني.
لابن أي: ذو لبن، تامر أي: ذو تمر.
ومنه أيضاً قول النابغة الذبياني: كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب ناصب، أي: ذو نصب.
ومثاله في (فعَّال) قول امرئ القيس: وليس بذي رمح فيطعنني به وليس بذي سيف وليس بنبال فصيغة نبال نابت عن النسبة أي: ليس بذي نبل، ويدل عليه قوله قبله: ليس بذي رمح، وليس بذي سيف.
وقال الأشموني: بعد الاستشهاد بالبيت المذكور: قال ابن مالك: وعلى هذا حمل المحققون قوله تعالى: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ)) أي: بذي ظلم.
ومثاله في (فَعِل) قول الراجز وهو من شواهد سيبويه: لست بليلي ولكني نهر لا أدلج الليل ولكن أبتكر (ولكني نهر) أي: ولكني نهاري، ينسب إلى النهار، فنابت صيغة (فَعِل) عن النسبة، فكذلك قوله تعالى: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) أي: ليس بذي ظلم.
إذاً على مقتضى اللغة العربية سهل جداً أن نفهم قوله تعالى: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) أي: وما أنا بذي ظلم، ففهم منه أن المقصود من صيغة المبالغة نفي الظلم من أصله.