كلام ابن القيم على آية: (إن في ذلك لذكرى)
وفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الفوائد) تفصيلاً رائعاً في قوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) يقول رحمه الله تعالى: فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم، وكيف تفتح ذراعاتها للعبد أبواب العلم والهدى، وكيف ينغلق باب العلم عنه من إهمالها وعدم مراعاتها، فإنه سبحانه أمر عباده أن يتدبروا آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة، بما تكون تذكرة لمن كان له قلب، فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه، ولو مرت كل آية.
ومرور الآيات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم ومرورها على من لا بصر له، فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات فإنه يراها.
فآيات الله إما آيات تنزيلية وإما آيات تكوينية، أما الآيات التنزيلية فهي آيات القرآن الكريم الوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بتدبره، وأما الآيات التكوينية فهي الأدلة التي بثها الله في السماوات وفي الأرض وفي المخلوقات لتدل الخلق على ربهم، كما قال الشاعر: تأمل صنوف الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
فنحن أمرنا بتدبر هذين النوعين من الآيات، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: (لقد أنزل علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩٠ - ١٩١]) إلى آخر السورة، فهنا جمع بين النوعين من الآيات؛ لأنها آيات قرآنية نحن مطالبون بالتفكر فيها، وأما الجانب التطبيقي فهو أن نتفكر بالفعل فيما يمر علينا من آيات الله التي بثها، لنراها ونتوصل من خلالها إلى عظمة الله وكماله وجلاله وتوحيده.
وقال تبارك وتعالى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ [الغاشية: ١٧ - ١٨] إلى آخر الآيات، بل في القرآن ما يدل على أن التفكر في هذه المخلوقات واجب وفريضة محكمة قال عز وجل: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ [الطارق: ٥]، هذه صيغة أمر، والأمر ظاهره الوجوب، أي: يجب على كل إنسان أن يتأمل في خلقه: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق: ٥ - ٦] إلى آخر الآيات.
فمن عدم القلب الواعي عن الله فإنه ستمر به ألفاظ القرآن دون أن يتدبر فيها ودون أن يتأمل فيها، فهو لم ينتفع بالآيات التي تمر عليه؛ لأنه عطل قلبه وصار كشخص لا قلب له، فتمر عليه آيات القرآن أو الآيات الآفاقية، أو الآيات التي في أنفسنا؛ لكنه غافل لاه عن التفكر فيها.
ثم يقول: ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه إلا بأمرين: أحدهما: أن يحضره ويشهد بما يلقى إليه، فإن كان غائباً عنه مسافراً في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به، فإذا أحضره وأشهده لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه ويفضي بكليته إلى ما يوعظ به ويرشد إليه.
إذاً هنا ثلاثة أمور: أحدها: سلامة القلب وصحته وقبوله.
الثاني: إحضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق.
الثالث: إلقاء السمع وإصغاؤه والإقبال على الذكر.
فذكر الله تعالى الأمور الثلاثة في هذه الآية: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) فقوله: ((لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)) أي: كان له قلب سليم وقابل للحق.
((وَهُوَ شَهِيدٌ)) أي: أنه يحضر قلبه ويجمعه ويمنعه من الشرود والتفرق والتشتت، ثم يصغي بسمعه ويقبل على الذكر.
قال ابن عطية: القلب هنا عبارة عن العقل إذ هو محله، والمعنى: لمن كان له قلب واع ينتفع به.
وقال الشبلي: قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين.
وقوله: ((أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) معناه: صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وأثبتها في سمعه، فذلك إلقاء له عليها، ومنه قوله ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: ٣٩]، أي: أثبتها عليك.
((وَهُوَ شَهِيدٌ)) قال بعض المتأولين: معناه: وهو شاهد مقبل على الأمر غير معرض عنه ولا يفكر في غير ما يسمع.
وقال قتادة: هي إشارة إلى أهل الكتاب.
فكأنه قال: إن هذه العبر تذكرة لمن سمعها من أهل الكتاب، فيشهد بصحتها لعلمه بها من التوراة وسائر كتب بني إسرائيل فهو منالشهادة، كما قال تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠].
وقال الزجاج: معنى: ((لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)) أي: من صرف قلبه إلى التفهم، ألا ترى أن قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] أنهم لم يستمعوا استماع مستفهم مسترشد، فجعلوا بمنزلة من لم يسمع.
كما قال الشاعر: أصم عما شاءه سميعه ومعنى: ((أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ)) أي: استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع، والعرب تقول: ألق إلي سمعك أي: استمع لي.