تفسير قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)
قال تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١].
في الحقيقة الآيات الأولى من سورة الذاريات إلى قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] تشتمل على آيات الله سبحانه وتعالى في الخلق وفي الوجود وفي أنفسنا، ويكفي أن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى شرح هذه الآيات القلائل في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) في أكثر من مائة صفحة، شرحها مع كثير من التأمل قدر ما توافر له آنذاك من العلوم البشرية ما يعين الإنسان على التأمل في خلق الله سبحانه وتعالى، والتوصل فعلاً إلى توحيد الله بالأدلة والبراهين المبثوثة في كل ما حولنا، ولذلك نحن نقول: إن التفكر ليس أمراً مستحباً فحسب، ولكنه فريضة على كل مسلم، قال سبحانه: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ [الطارق: ٥] هذا فعل أمر، والأمر ظاهره الوجوب، فيجب أن يتأمل الإنسان في مثل هذه الآيات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [آل عمران: ١٩٠ - ١٩١]).
فالتفكر وظيفة في غاية الأهمية بالنسبة للمؤمن لكي يزداد إيماناً ويقيناً.
ولو وقفنا فقط -وبالذات في ضوء المكتشفات الحديثة والعلوم الحديثة كعلم الطب وعلم التشريح وغيرهما- مع قوله تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ لطال بنا الكلام جداً، لكن ننصح الإخوة بمطالعة كلام الإمام ابن القيم في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) على هذه الجملة من الآيات طلباً للاختصار.
قوله: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ أي: في حال اهتدائها وتنقلها من حال إلى حال، واختلاف ألسنتها وألوانها، وما جبلت عليه من القوى والإرادات، وما بينها من التفاوت في العقول والأفهام، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل عضو منها في المحل المفتقر إليه، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب ولا لسان بليغ.
يعني: خلق الله سبحانه وتعالى إيانا في أحسن تقويم، وجعل كل عضو في أفضل مكان له، فلم يجعل الأذنين في مؤخرة الرأس مثلاً أو في الرجلين، ولم يجعل الفم أعلى الجبهة، أو الأنف في الخلف، بل تجد كل شيء وضع في موضعه، فالقواطع في مقدمة الفم، والأنياب تمزق الطعام على الجانبين، ثم الأضراس للطحن، فلو أن الأضراس هي التي كانت في مقدمة الفم لاختل هذا النظام، ومع ذلك يأتي السفهاء والملاحدة ويقولون: إن الأمر صدفة، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
إذاً: الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتفكر والتدبر في المخلوقات، لو أنك درست علم التشريح أو علم وظائف الأعضاء، أو علم الأمراض أو غير ذلك من فروع العلوم كلها، مثل: علوم النباتات، أو علوم الهندسة النووية، أو العلوم الجينية، أو الهندسة الوراثية، إذا درست هذه بنية التأمل والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى كما أمرنا هنا وفي كثير جداً من الآيات فإنك تكون في عبادة.
هذا العلم ما خلقه الله إلا ليدلنا عليه سبحانه وتعالى وعلى توحيده، وهذه العلوم لا تجافي علم الدين، بل الآيات كما قلنا مراراً نوعان: آيات تنزيلية، وآيات تكوينية، فالآيات التنزيلية هي آيات القرآن الكريم وآيات الوحي، وأما الآيات التكوينية فهي صفحة هذه المخلوقات التي تكشف عن صانعها وخالقها وهو الله سبحانه وتعالى، كما قال الشاعر: فيا لك من آيات حق لو اهتدى بهن مريد الحق كن هواديا ولكن على تلك القلوب أكنة فليست وإن أصغت تجيب المناديا والكلام في هذا يطول.
وأنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه (التفكر والاعتبار) لشيخه أبي جعفر القرشي قوله: وإذا نظرت تريد معتبراً فانظر إليك ففيك معتبر أنت الذي تمسي وتصبح في الـ دنيا وكل أموره عبر أنت المصرف كان في صغر ثم استقل بشخصك الكبر أنت الذي تنعاه خلقته ينعاه منه الشعر والبشر أنت الذي تعطى وتسلب لا ينجيه من أن يسلب الحذر أنت الذي لا شيء منه له وأحق منه بما له القدر


الصفحة التالية
Icon