تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين)
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: ٢٦ - ٢٧]: ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً، وأن المسئول عنهم يقول للسائل: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ)) يعني: في دار الدنيا، ((فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)) أي: خائفين من عذاب الله، ونحن بين أهلنا أحياء، ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا)) أي: أكرمنا وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة من عذاب السموم، والسموم: النار ولفحهها ووهجها، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام، والجمع سمائم، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: معاصم لم تضرب على البهم بالضحى عصاها ووجه لم تلحه السمائم وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد، فهو من الأضداد، ومنه قول الراجز: اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه فهذه الفاء في قوله تعالى: ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا)) تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا، يعني: كنا نخاف الله ونشفق ونحن في أهلنا من عذاب الله، ((فمن الله علينا)) يعني: أن سبب النجاة من العذاب هو هذه الخشية التي كانت في الدنيا.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا سبب للسلامة في الآخرة، يفهم من دليل خطابه -يعني: من مفهوم المخالفة- أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة.
فقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: ٢٦ - ٢٧]، هذا هو المنطوق، ومفهوم المخالفة: أن من لم يكن مشفقاً في الدنيا من عذاب الله، فإنه لا ينجو من هذا العذاب في الآخرة، ويوضحه قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾ [الانشقاق: ١٠ - ١٤].
يعني: أننا وصلنا إلى هذا المعنى عن طريق الاستنتاج من طريق مفهوم المخالفة في الآية هنا: ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: ٢٦ - ٢٧]، فأخذنا من منطوق الآية: أن من خاف عذاب الله في الدنيا فإن عاقبته النجاة منه في الآخرة، هذا هو المنطوق، وأما المفهوم فهو: أن من لم يخف ولم يبال بعذاب الله في الدنيا، فإنه لن ينجو منه في الآخرة، وهذا المفهوم يدل عليه المنطوق صراحةً في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾ [الانشقاق: ١٠ - ١٢].
وقوله: (وراء ظهره) لا تتعارض مع أنه يأخذ كتابه بشماله؛ فإنه يأخذه بشماله من وراء ظهره، فتمد يده إلى وراء ظهره، ويأخذ كتابه بشماله التي تمتد إلى وراء ظهره.
وقوله: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا)) يعني: يقول: واثبوراه! واهلاكاه! وقوله: ((وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ)) هذا مسلك من مسالك التعليل، ومعروف في بحث الإيماء والتنبيه أن (إنَّ) المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله تعالى هنا: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)) علة لقول الله تبارك وتعالى: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا))، وكأن سائلاً بعدما سمع قوله تعالى: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا)) يسأل ويقول: لماذا يدعو ثبوراً؟ ولماذا يصلى سعيراً؟ فالجواب والعلة والسبب: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)) بخلاف حال المؤمنين: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ))، أما هذا: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا))، والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشفق ولا خائف.
ويؤيد ذلك قوله سبحانه بعد هذه الآية: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾ [الانشقاق: ١٤]؛ لأن معناه: أنه ظن ألن يرجع إلى الله حياً يوم القيامة، وهذا بخلاف المؤمن الذي يذكر نفسه دائماً: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٥٦]، وهذا من شؤم الكفر باليوم الآخر، كما بين الله تعالى ذلك في قوله: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: ١٠٥]، فالكذب لا يصدر إلا عمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وكذلك السرور والبطر والفرح في الدنيا، والاطمئنان والأمان في الدنيا وعدم الخوف من عذاب الله في الدنيا؛ كل هذا ثمرة من ثمار عدم الإيمان باليوم الآخر؛ ولذلك قال هنا: ((إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ)) أي: أنه لن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أن من ظن أنه لن يبعث بعد الموت لا يكون مشفقاً في أهله خوفاً من العذاب؛ لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء.
وقوله: ((لن يحور)) بمعنى: لن يرجع، وهذا معروف في لغة العرب، ومنه قول المهلهل بن ربيعة التغلبي: أليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيت فلا تحوري يعني: لا ترجعي، أي: أنها كانت ليلة شقاء وبؤس وضنك، فهو يخاطب هذه الليلة الطويلة المؤلمة بقوله: لا تعودي علينا، أي: كما كنت في الأيام التي لا تدور، كما تقول: هذه أيام كذا الله لا يرجعها، فكذلك هنا يقول: إذا أنت انقضيت فلا تحوري.
يعني: فلا ترجعي.
وكذلك منه قول لبيد بن ربيعة العامري: وما المرء إلا كالشهاب وضوءه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع أي: أنه كالنار التي تشتعل ثم تخمد.
فقوله: (يحور) بمعنى يرجع، وقيل: بمعنى يصير، والمعنى واحد.
وقال تبارك وتعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ﴾ [الواقعة: ٤١ - ٤٤]، لماذا؟ ﴿إِنَّهُمْ﴾ [الواقعة: ٤٥] انظر إلى (إنَّ) التي تأتي للتعليل، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [الواقعة: ٤٥ - ٤٧].
وتنعمهم في الدنيا المذكور في قوله تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ)) هو في نفس معنى قوله تعالى: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)).
وإنكارهم للبعث المذكور في قوله تعالى: ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ﴾ [الواقعة: ٤٧ - ٤٨]، دليل على أنهم لم يكونوا مشفقين في الدنيا من عذاب الآخرة؛ لأنهم ما كانوا أصلاً يؤمنون بالآخرة ولا بالبعث ولا بالنشور، فهذا هو علة كونهم في سموم وحموم، فقوله تعالى: ((فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: ٤٢ - ٤٣] السبب: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)) [الواقعة: ٤٥ - ٤٧].
وقد قدمنا قريباً أن: (إنَّ) المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ))، علة لقوله: ((فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ)).
وقد ذكر جل وعلا: أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه، قال تعالى في سورة المعارج: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ [المعارج: ٢٧ - ٢٨]، إلى قوله: ﴿أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ [المعارج: ٣٥]، فمن خاف الله في الدنيا أمن من عذابه يوم القيامة.
ومن أمن في الدنيا أخافه الله يوم القيامة.
وذكر الله سبحانه وتعالى أن ذلك من صفات أهل الجنة في قوله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٧]، إلى قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: ٦١].
وقد قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الواقعة: ١١ - ١٢].
وقوله تعالى في الآية السابقة في سورة الواقعة: ((وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ)) يعني: يديمون ويعزمون على الذنب الكبير، كالشرك وإنكار البعث، وقيل: المراد بالحنث: حنثهم في اليمين الفاجرة التي كانوا يحلفونها، كما في قوله تعالى حاكياً عنهم: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ [النحل: ٣٨].
وثبت في الحديث أن أحد الصحابة أتى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فوجدها تصلي وتقرأ هذه الآية: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ))، فانصرف لما سمعها تردد هذه الآية، وذهب إلى السوق، وقضى حاجته، وغاب مدة طويلة ثم رجع، وهي قائمة تصلي بنفس الآية، ترددها وتتدبر