كلام القاسمي في أول سورة الطور
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ﴿وَالطُّورِ﴾ [الطور: ١] أي: وطور سينين، جبل بمدين، سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تعالى.
﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور: ٢] مكتوب، والمراد به القرآن، أو ما يعم الكتب المنزلة.
﴿فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ﴾ [الطور: ٣] يعني: أن الكتاب مسطور في رق منشور.
إذاً: قوله: ((فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)) متعلق بقوله: ((مَسْطُورٍ)) أي: وكتاب سطر في رق منشور يقرأ على الناس جهاراً، والرق: الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه.
وغلَّط الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى من قال إن الكتاب المسطور في رق منشور هو: اللوح المحفوظ، قال: لأن اللوح المحفوظ ليس برق.
يعني: ليس عبارة عن جلد معد للكتابة عليه، فلا يطلق عليه وصف الرق.
أيضاً غلَّط بعض العلماء قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) المقصود به التوراة؛ لأن التوراة كانت في ألواح، كما قال تعالى: ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ﴾ [الأعراف: ١٥٠]، ولم تكن في رق.
فبالتالي لا يصح تفسير قوله: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) بأنه التوارة.
ومما أُيّد به التفسير الذي ذكرناه وأنه هو الراجح -وهو أن الكتاب المسطور المقصود به القرآن الكريم- الربط دائماً بين موسى عليه السلام وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وبين الأمة المحمدية وأمة بني اسرائيل، وبين التوراة وبين القرآن الكريم، وهذا كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [الأحقاف: ٣٠].
والكتاب الأساسي هو التوارة، أما الإنجيل فجاء مكملاً فقط للتوراة، لذلك قالت الجن كما حكى الله عنهم: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [الأحقاف: ٢٩ - ٣٠]، فهنا حصل الربط بين القرآن وبين موسى عليه السلام.
كذلك لما اصطحبت خديجة رضي الله تعالى عنها النبي ﷺ إلى ورقة بن نوفل، قال له: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، فربط بين موسى وبين محمد عليه الصلاة والسلام.
كذلك قول النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
كذلك في صدر سورة الإسراء، نلاحظ هذا الربط بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الإسراء: ١] إلى قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ [الإسراء: ٢].
فيلاحظ في القرآن الكريم: التشابه الشديد بين موسى وبين محمد صلى الله عليهما وسلم، سواء في النشأة أو أطوار الرسالة، وهذا كله مصداق ما جاء من البشارة في التوراة.
وقد ذكرت الملائكة لـ هاجر أن الله سبحانه وتعالى سوف يجعل من نسلها ولداً مباركاً، وهو إسماعيل عليه السلام، وهذه البشارة ما زالت موجودة بين أيدي اليهود والنصارى إلى اليوم، وفيها: (وأقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك) أي: مثل موسى، فهذه المثلية هي التي نشير إليها؛ لوجود صور كثيرة من التشابه بينهما، ولا يوجد هذا التشابه الكبير بين المسيح وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما دائماً التشابه يكون بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهذا كله مصداق هذه البشارة التي فيها: (أقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك).
يعني: مثل موسى عليه السلام.
فمما يرجح أن الكتاب المسطور المراد به القرآن؛ هذا المبدأ الذي أشرنا إليه، وهو الربط والارتباط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وبين التوراة وبين القرآن، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: ١ - ٣]، حلف الله تعالى وأقسم بالمواضع الثلاثة التي أنزل فيها الوحي على الأنبياء.
فقوله: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ))، هذا إقسام ببلاد الشام، حيث ينبت التين والزيتون.
وقوله: ((وَطُورِ سِينِينَ))، حيث كلم الله موسى عليه السلام.
وقوله: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: ٣]، يعني: مكة، حيث أنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكذلك هنا قرن بين الطور الذي هو مهبط كلام الله على موسى، وبين القرآن الكريم.