تفسير قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى الجزاء الأوفى)
قال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى﴾ [النجم: ٣٩ - ٤١].
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾.
أي: وأنه لا يُجازى عامل إلا بعمله خيراً كان أو شراً، وظاهر السياق يُشعر بلزوم الآيات رداً على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه ويتحكمون فيه على الغيب لجاجاً وجهلاً، ولذلك فمفهومها الشمولي جلي.
واستُدل بهذه الآية على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحي والميت، يعني: لا يصح أن ينوب أحد عن أحد في صلاة ونحوها.
واستدل به الشافعي على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾.
وقال ابن كثير: ومن هذه الآيات الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب رسول الله ﷺ أمته إليها، ولا حثهم عليها، ولا أرشدهم إلى ذلك بنص ولا إيماء.
يعني: أن ثمة سنة تركية، فالشيء قد يكون مقتضاه موجوداً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، والمانع غير موجود، ومع ذلك لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بالبلاغ، وأي شيء له علاقه بالدين يقربنا وينفعنا عند الله ويبعدنا من النار أمر به النبي، وما كتم شيئاً؛ فهو مأمور بالتبليغ، ومعصوم من الكتمان، وهل الموتى من المسلمين في حاجة إلى إحسان أقاربهم أو إخوانهم إليهم بقراءة القرآن ثم إهداء الثواب، أم ليسوا في حاجة إلى هذا؟ فالناس محتاجون إلى أن يقرءوا القرآن ويهدوا ثوابه إلى الموتى، فالزمان كان زمان تشريع، والرسول عليه السلام مأمور بالتبليغ، والوحي ينزل عليه، والداعي المقتضي موجود، والمانع مفقود، أي لا يوجد مانع يمنعهم من أن يشرع لهم ذلك، ومع ذلك لم يشرعه.
فإذاً: السنة في هذا أن نترك ما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن المقتضي كان موجوداً، والمانع غير موجود، ومع ذلك لم يشرعه، فدل على أنه ليس من الدين.
إذاً: من تعبد ببدعة فهو يرهق نفسه بما لا طائل من ورائه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
هذا أنموذج من المسائل التي فيها مثل هذا الكلام، وهو موضوع قراءة القرآن وإهداء ثوابه إلى الموتى، لكن يُستثنى من هذا الابن مع أبيه، كما ذكر ذلك العلامة الألباني رحمه الله تعالى في كتابه المبارك: (أحكام الجنائز) فقال: يُستثنى الابن فقط، الابن يقرأ ويهدي الثواب لأبيه؛ لأن الابن من كسب أبيه.
بل بعض العلماء يقول: إن الابن أصلاً لا يحتاج حتى لإهداء الثواب؛ لأن كل ما يعمله الابن من العمل الصالح يجازى الأب بمثله، وكل ما يعمله الابن من العمل يصل ثوابه إلى ميزان أعمال الأب؛ لأن الابن من سعي أبيه، فهو الذي تسبب في وجوده في هذه الدنيا.
فهذا كما يقول ابن كثير: ومن هذه الآيات الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله تعالى ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله ﷺ أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم يُنقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات يُقتصر فيه على النصوص -وإلا يُفتح باب الابتداع في الدين على مصراعيه- ولا يُتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذلك مُجمَع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما.
فالأدلة أتت بأن الدعاء ينفع الموتى، والصدقة تنفع الموتى، وبعض العبادات تنفع الموتى، كالحج ونحو ذلك.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم يُنتفع به)، فهذه الثلاث-في الحقيقة- هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: (إن أطيب ما أكل الرجل من كده، وإن ولده من كده)، والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ [يس: ١٢]، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضاً من سعيه وعمله.
وثبت في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
قال الرازي: المراد من الآية: بيان ثواب الأعمال الصالحة، أو بيان كل عمل.
ونقول: المشهور أنها لكل عمل؛ فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به، أي أن قوله هنا: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، يعني: إلا سعيه وكسبه.
و (ما) هنا مصدرية.
فبعض العلماء يقول إنها تعم.
وبعضهم يقولون: إنما تعني الأعمال الصالحة.
يقول الرازي: والظاهر أنه لبيان الخيرات، يدل عليه (اللام) في قوله تعالى: ((لِلإِنسَانِ))، فإن (اللام) لعَود المنافع، و (على) لعَود المضار، تقول: هذا له، وهذا عليه، وتقول: هذا يشهد له، وهذا يشهد عليه، في المنافع والمضار.
وأيضاً مما يقوي هذا المذهب: قول الله تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى﴾ [النجم: ٤١] فهذا قطع بأن هذا الفعل سوف يُجزى عليه الإنسان الجزاء الأوفى، والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة، أما في حالة السيئة فإنما يجزى بالمثل أو دونه أو العفو عن الإثم بالكلية، كما قال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل: ٨٩ - ٩٠]، وقد يعفو الله عن السيئة، بل قد يبدلها حسنات.
وقوله تعالى: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) يعني: سوف يراه، ويُعرض عليه، ويُكشف له، مِن (أُريتُ الشيء).
أو سَوْفَ يُرَى للخلق وللملائكة، ففيه بشارة للمؤمن وإفراح له، ونذارة للكافر وإرهاب له.
أو هو مِن (رأى) المجرد، يعني: سوف يراه، كقوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ١٠٥].
(ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى)، أي: يُجزى سعيه جزاءً وافراً، لا يُبخس منه شيء.


الصفحة التالية
Icon