تفسير قوله تعالى: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر)
قال تبارك وتعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: ١٠ - ١٤].
((فَدَعَا رَبَّهُ))، يعني: فدعا عليهم نوح ربه، ((أَنِّي مَغْلُوبٌ))، أنهم غلبوني بتمردهم، ((فَانْتَصِرْ)).
يقول القاسمي: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ))، أي: غلبني قومي تمرداً وعتواً فلم يسمعوا مني، واستحكم اليأس منهم؛ لأنهم جيل وراء جيل، وقرن وراء قرن، ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، وما يأتي جيل إلا ويكون كافراً كالذي قبله، حينئذٍ دعا عليهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (فاستحكم اليأس منهم، فانتقم منهم بعذاب ترسله عليهم).
فمعنى قوله تعالى: ((فَانْتَصِرْ))، يعني: فانتقم لي ممن كذبني.
((فَفَتَحْنَا))، هذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاء نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بالطوفان الذي هلكوا فيه.
ونجد المفسرين لدقتهم في الفهم يقدرون هنا كلاماً تدل عليه المواضع الأخرى التي ذكرت قصة نوح، فيقولون: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ))، فأجبنا دعاءه، وهذه دل عليها قوله في سورة الأنبياء: ((وَنُوحَاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)) [الأنبياء: ٧٦].
((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)) [القمر: ١٠]، فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة؛ لأن الأمر باتخاذ السفينة كان قبل الطوفان.
((فَفَتَحْنَا))، وفي قراءة ابن عامر: ((فَفَتَّحْنَا)) بالتشديد ((بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ)) [القمر: ١١]، أي: متدفق، والماء المنهمر هو الكثير السريع الانصباب، فشبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء، وشُق لها أديم الخضراء، يقول الشاعر: أعيني جودا بالدموع الهوامر على خير بادٍ من معد وحاضر (أعيني جودا بالدموع الهوامر) يعني: الغزار الكثيرة.
((وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونَاً)) [القمر: ١٢]، أي: وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، ((فَالْتَقَى الْمَاءُ))، أي: ماء السماء وماء الأرض، ماء من السماء كثير وسريع الانصباب، وماء ينبع ويتفجر من الأرض، ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) [القمر: ١٢]، أي: على حالٍ قدَّره الله وقضاه في اللوح المحفوظ، وهذا الأمر هو هلاك قوم نوح وغرقهم.
وقيل: ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) [القمر: ١٢]، يعني: كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض بعلم الله سبحانه وتعالى، أي: أن هذا الماء الذي نبع من الأرض وتفجر منها هو في كمه يساوي نفس كمِّ الماء الذي نزل من السماء.
لكن القول الأول أقرب.
وقال محمد بن كعب القرظي مشيراً إلى أن كل شيء إنما يجري بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء.
ثم تلا هذه الآية: ((فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) [القمر: ١٢].
فهذا نوع من الاستشهاد بالآية على معنىً آخر، وهو أن كل شيء سبق قضاء الله سبحانه وتعالى به؛ وقوله: (كانت الأقوات قبل الأجساد)، يعني: قبل أن يخلق الله النفس يكون قد كتب لها رزقها وقوتها الذي تقتاته.
(وكان القدر قبل البلاء)، ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: ٢٢]، كونها تقع على وفق علمه السابق وتقديره السابق فهذا أمر يسير جداً في حق الله سبحانه وتعالى، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٠]، فهذا مما يدل على عظم وعموم قدرته تبارك وتعالى.
((وَحَمَلْنَاهُ)) يعني: وحملناه على سفينة ((ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ))، وهذا من بديع الكلام، حيث أقيمت صفاتها مقامها، لتأديتها مؤداها؛ لأن هذا الوصف يؤدي المعنى.
((وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ))، يعني: على السفينة، وألواحُها: خشباتها العريضة التي منها جُمعت، أما (الدُّسُر) فجمع دِسار كـ (حِمار) و (حُمُر)، أما إذا قلنا: إن (دُسُر) جمع دَسْر فتكون كـ (سَقْف) و (سُقُف)، وهي أضلاع السفينة، أو حبالها التي تشد فيها، أو مساميرها، فـ (الدُّسُر) المسامير والحبال التي تُشَد بها الألواح.
هناك قول آخر في (الدُّسُر): إن الدُّسُر هو صدر السفينة؛ لأنه يدسر الماء، أي: يشق الماء ويدفعه إلى الأمام، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي ﷺ سئل عن زكاة العنبر، فقال: إنما هو شيء دَسَره البحر)، رواه الإمام أحمد، يعني: قَذَفه أو دَفَعه البحر.
((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا))، أي: بمرأىً منا، أي: بحفظ الله عز وجل وعنايته، ((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ))، من هو الذي كان كُفر؟ إما أنه الله سبحانه وتعالى، فيكون المعنى: جزاء لمن كُفر به، وهو الله عز وجل.
أو جزاء لمن كان كُفر به، وهو نوح عليه السلام، وما جاء به نوح.
فهذا هنا من الكفر الذي هو ضد الإيمان.
قال بعض المفسرين: قوله تبارك وتعالى: ((جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)) (مَن) هنا تكون بمعنى (ما) أي: جزاء لما كان كُفر من نعم الله عند الذين أغرقهم؛ لأن (مَن) قد تأتي بمعنى (ما).
وقد قرأها قتادة: ((جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ))، أي: لمن كان كَفَرَ بالله.


الصفحة التالية
Icon