كلام الشنقيطي على قاعدة: (الأصل فيما على الأرض الإباحة حتى يأتي دليل بالمنع)
وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى أن بعض علماء الأصول أخذ من هذه الآية الكريمة: ﴿وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ﴾ وأمثالها من الآيات كقول الله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩]، أخذوا: أن الأصل فيما على الأرض الإباحة حتى يأتي دليل خاص بالمنع؛ لأن الآية وردت في سياق الامتنان على العباد ﴿وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ﴾.
وقال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩]، فخلقه هذه الأشياء كلها وتسخيرها لبني آدم يدل على أن الأصل فيما هو في هذه الأرض الإباحة إلا أن يرد دليل خاص بالمنع؛ لأن الله أمتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض، وجعل فيها أرزاقهم من القوت، وحثهم على التفكر في هذه الآلاء، وامتن عليهم بها، ومعلوم أن الله جل وعلا لا يمتن علينا بحرام، إذ لا منة في شيء محرم.
ومن أدلتهم على هذا الأصل: حصر الأشياء المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتابه تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾ [الأنعام: ١٤٥] إلى آخر الآية، فهذا أيضاً يؤكد أن الأصل هو الإباحة، وأن دائرة التحريم دائرة ضيقة جداً، وهي استثناء وليست أصلاً.
وقال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا﴾ [الأعراف: ٣٣]، و (إنما) تفيد الحصر ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣]، وقال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] إلى آخر الآيات.
وهذه المسألة فيها قولان آخران للعلماء: أحدهما: أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة.
وعللوا ذلك بأن جميع الأشياء مملوكة لله عز وجل، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول ليس هذا محل ضبطها.
والقول الثاني -وهو يعتبر القول الثالث- هو التوقف وعدم الحكم فيها بغير عنوانها إذا حكم حتى يقوم الدليل، فتحصل أن في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أن الأصل هو المنع.
المذهب الثاني: أن الأصل هو الإباحة.
المذهب الثالث: التوقف إلى أن يأتي دليل.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل؛ لأن الأعيان التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الأرض للناس لها ثلاث حالات: الأولى: أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر بوجه من الوجوه، كأنواع الفواكه مثلاً ونحو ذلك.
الثانية: أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع، فهي ضرر محض، كأكل الأعشاب السامة القاتلة مثلاً.
الثالثة: أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك؛ لعموم قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ﴾، وقوله: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ﴾ [الرحمن: ١١ - ١٢]، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾.
وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات: الأولى: أن يكون النفع أرجح من الضرر.
الثانية: أن يكون الضرر أرجح من النفع.
الثالثة: أن يتساوى الأمران، فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساوياً له فالمنع، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بمعنى: أن هذا الشيء إذا كان سيأتي بالمفسدة وبالمنفعة وكلاهما متساويتان فإنه في هذه الحالة (درء المضار مقدم على جلب المنافع)، وإن كان النفع أرجح فالأظهر الجواز؛ لأن المقرر في الأصول: أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله: وألغِ إن يك الفساد أبعد أو رجح الإصلاح كالأسارى تفدى بما ينفع للنصارى وانظر تدلي دولي العنب في كل مشرق وكل مغرب ومراده تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة أو البعيدة.
يعني: إن كانت المفسدة راجحة على المصلحة كالأسارى تفدى بما ينفع للنصارى، يعني: إذا كان هناك أسرى مسلمون -مثلاً- في أيدي الكفار أو النصارى، ولن يطلقوهم إلا بدفع الفدية، ولا شك أن بذل الأموال للكفار مما يقويهم على معاداة المسلمين ومقاتلتهم، فهم ينتفعون بهذا المال، وهذه مضرة وفي نفس الوقت فإن فك أسرى المسلمين مصلحة، إلا أن المصلحة هنا تترجح على المفسدة، فبالتالي يبذل المال للكفار، مع أن فيه ضرراً يترجح عليه مصلحة إطلاق الأسارى.
كذلك زراعة العنب، فالعنب -مثلاً- قد يستعمل عصيره في صناعة الخمر، لكن الأصل استعماله فيما يباح، فالمصلحة هنا تترجح على وجود احتمال أنه يصنع به الخمر.
وصاحب مراقي السعود ذكر هذه القاعدة وهي: تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة أو البعيدة ومثل لها بالمثالين السابقين، وهما: الأول: أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداءً للأسارى.
الثاني: أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه؛ لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة، وهذا التفصيل الذي اخترنا قد أشار له صاحب المراقي بقوله: والحكم ما به يجيء الشرع وأصل كل ما يضر المنع


الصفحة التالية
Icon