تفسير قوله تعالى: (الرحمن علم القرآن)
نشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة الرحمن وهي السورة الخامسة والخمسون في ترتيب المصحف الشريف.
يقول المهايمي: سميت به؛ لأنها مملوءة بذكر الآلاء الجليلة، وهي راجعة إلى هذا الاسم.
إذاً: هذه السورة حافلة بذكر نعم الله سبحانه وتعالى ومننه على عباده، وكل هذه النعم إنما هي من آثار اسمه الكريم الرحمن.
وهي سورة مكية على قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وآيها ثمان وسبعون آية.
وقد روى الإمام أحمد: أن أول مفصل ابن مسعود كان الرحمن.
والمعروف أن الراجح في هذا أن أول المفصل سورة ق كما بينا ذلك في موضعه.
وقال مقاتل: لما نزل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان: ٦٠]، قال كفار مكة: وما الرحمن؟ فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: ١ - ٢].
يعني: أن الرحمن الذي أنكروه هو الذي علم القرآن، وتكرر منهم ذلك أيضاً في موقف آخر كما في كتابة صلح الحديبية، حينما أنكروا أن يكتب في وثيقة الصلح: بسم الله الرحمن الرحيم، وأصروا على أن يكتبوا باسمك اللهم؛ إنكاراً لاسم الرحمن جل جلاله، وهذا منهم مكابرة، وإلا فاستعمال هذا الاسم الجليل شائع في أشعارهم قبل الإسلام، وكانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى بأنه الرحمن أيضاً، لكن هذا من الجحود ومن الكفران والاستكبار.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: ١ - ٢] أي: بصر به الناس وأخبرهم بما فيه رضاه وما فيه سخطه.
﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ لفظة (القرآن) تعرب على أنها مفعول به ثان؛ لأن (علّم) تتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول هو الرسول، فيكون التقدير: علم الرسول محمداً ﷺ القرآن، وعلم أمته هذا القرآن الكريم.
وقيل: ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ بمعنى: يسر القرآن.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: بصر به، وعلمهم وأخبرهم بما فيه رضاه وما فيه سخطه برحمته، فهذا التعليم وهذه الهداية هي من رحمة الله سبحانه وتعالى؛ ليطاع باتباع ما يرضيه، وعمل ما أمر به، وباجتناب ما نهى عنه وأوعد عليه، فينال جزيل ثوابه وينجى من أليم عقابه.
قال القاضي: لما كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية، صدرها بهذا الاسم الفريد (الرَّحْمَنُ).
وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلها على الإطلاق على البشرية وهي نعمة إنزال القرآن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالقرآن هو أصل كل النعم الدينية، وهو أجل هذه النعم الدينية، يقول عز وجل: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠]، فإنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه هذا كله؛ لأن القرآن أساس الدين ومنشأ الشرع وأعظم الوحي وأعز الكتب، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدق لنفسه ومصدق لما سبقه من الكتب كما أنه مهيمن عليها.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ أي: علم نبيه ﷺ القرآن فتلقته أمته عنه، وهذه الآية الكريمة تتضمن رد الله على الكفار في قولهم: إنه تعلم هذا القرآن من بشر، كما قال تبارك تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣]، وكذلك في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ [المدثر: ٢٤] وهذا الوليد بن المغيرة حينما زعم أن القرآن سحر يؤثر.
قوله: (يؤثر) يعني: ينقل ويرويه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن غيره.
وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٤ - ٥].
فقوله تبارك وتعالى هنا: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ * ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ فيه رد على كل هذه الفرق، يعني: ليس الأمر كما زعمتم من أن هذا القرآن سحر يؤثر، أو إنما علمه بشر، أو أساطير الأولين وغيره ذلك، بل الرحمن جل وعلا هو الذي علمه هذا القرآن.
والآيات الدالة على هذا كثيرة جداً، كقوله تعالى في جملة من الآيات تشهد بأن الله هو الذي أنزل هذا القرآن: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الفرقان: ٦]، وقوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: ١]، وقال تعالى: ﴿حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فصلت: ١ - ٤]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ٥٢]، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ [طه: ١١٣]، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ﴾ [الشورى: ٥٢]، وقال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ [يوسف: ٣]، وقال تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣]، صلى الله عليه وآله وسلم.
فلاشك أن أعظم ما علمه الله سبحانه وتعالى هو هذا القرآن العظيم، وقال أيضاً: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: ١٨٥].
وبين الله سبحانه وتعالى أن أعظم نعمة أنعمها على الرسول ﷺ في المقام الأول ثم على أمته هي تعليم هذا القرآن، فقد قال تبارك وتعالى في سياق الامتنان: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: ٣٢] وأرشدنا الله سبحانه وتعالى وعلمنا أن نحمده على نعمة إنزال القرآن، فقال تبارك وتعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ [الكهف: ١]، وقال تبارك وتعالى مبيناً أن إنزال القرآن رحمة لهذا الخلق، فقال: ﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [القصص: ٨٦]، وقال أيضاً: ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [الدخان: ٥ - ٦].
فقوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾، فيه حذف أحد المفعولين، والتحقيق -كما يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى- أن المحذوف هو المفعول الأول لا الثاني كما ظنه الفخر الرازي، وقد رده عليه أبو حيان.
والصواب: هو ما ذكره من أن المحذوف هو المفعول الأول وتقديره: علم النبي القرآن، أو علم جبريل القرآن، أو علم الإنسان القرآن.