تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)
قال تبارك وتعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: ٧ - ٩].
قوله: ((وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا))، كما قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾ [ق: ٦].
((وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا))، يعني: خلقها مرفوعة، وكل ما علا فهو سماء، السحاب سماء، الغلاف الجوي سماء، ما يسمى خطأً بالفضاء سماء.
((وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)) أي: العدل بين خلقه في الأرض، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشورى: ١٧]، يعني: وأنزل الكتاب وأنزل الميزان.
واختلف في الميزان هنا فقال القاسمي: الميزان هو العدل بين خلقه في الأرض؛ لأن المعادلة موازنة الأشياء، وقيل: هو الميزان المعروف الذي يستعمل لوزن الأشياء؛ كي يتناصف الناس في الحقوق ويأخذ كل إنسان حقه، وقيل: الميزان هو القرآن الكريم نفسه.
﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ (أن) فيها قولان: إما بمعنى اللام، يعني: وضع الله سبحانه وتعالى الميزان ليأخذ كل حقه، ولا يطغى أحد على أحد في الميزان، أو (أن) هنا للتفسير، فتكون (لا) للنهي، والمعنى: لا تجاوزوا العدل بالإفراط عن حد الفضيلة والاعتدال، فيلزم الجور الموجب للفساد.
﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ أي: بالاستقامة على الطريقة، وملازمة حد الفضيلة.
كما قال تعالى أيضاً: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [الأنعام: ١٥٢]، فقوله تعالى: ((وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)) يعني: لا تنقصوا الوزن.
قال بعض الحكماء: العدل ميزان الله تعالى، وضعه للخلق ونصبه للحق.
وممن فسر الميزان في الآية بالعدل مجاهد وتبعه ابن جرير وكذا ابن كثير.
وجوز أن يراد بالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء، كذلك ما يعرف به مقاييس الأشياء، فالميزان ليس فقط لوزن الأشياء التي توزن بالثقل، وإنما ما يضبط من حقوق الناس ومستحقاتهم، فالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء، سواء الأشياء الموزونة أو المكيلة أو المقيسة المذروعة.
قال السيوطي في الإكليل: فيه وجوب العدل في الوزن، وتحريم البخس فيه، وعليه فوجه اتصال قوله: ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ بما قبله، أنه لما وصف السماء بالرفعة التي هي مصدر القضايا والأقدار، أراد وصف الأرض بما فيها، مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار، ويسوى بين الحقوق والمواهب.
ومن اللطائف التي يتسع لها نظم الآية الكريمة قول الرازي: الميزان ذكر ثلاث مرات، كل مرة بمعنى، فالأول: هو الآلة، والثاني: المطر، والثالث: للمفعول، أي: الموزون.
يعني: ذهب الرازي إلى أن الميزان هنا ذكر ثلاث مرات، الأول: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: ٧]، الثاني: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾، الثالث: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾، فالأول: هو آلة الوزن التي يعرف بها مقادير الأشياء، أما الثاني: فالمقصود به هنا المصدر، الذي هو الوزن نفسه، أي: ألا تطغوا في عملية الوزن، والثالث: للمفعول، يعني: الشيء الموزون، وهذا من لطائف التفسير.
ثم قال: وهو كالقرآن الكريم ذكر بمعنى المصدر في قوله: ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨]، يعني: قراءته، وبمعنى: المقروء، وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ [الرعد: ٣١] وفي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر: ٨٧].
ثم قال: وبين القرآن والميزان مناسبة، فإن القرآن فيه من العلم ما لا يوجد في غيره من الكتب، والميزان فيه من العدل ما لا يوجد في غيره من الآلات، فهذا وجه الجمع في هذا السياق بين القرآن الكريم وبين الميزان؛ لأن الله تعالى قال: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ﴾ [الرحمن: ١ - ٣]، إلى قوله: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ [الرحمن: ٧ - ٨].