وجه تفسير قوله تعالى: (لا تنفذون إلا بسلطان) على أن السلطان العلم والرد عليه
هنا تنبيه أخير قبل أن نختم الكلام فيما يتعلق بقوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾، يقول صاحب كتاب (خواطر دينية): كثير من أهل العلم يدعي في قوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ أنه يشير إلى الطائرات وسفن الفضاء، ويقولون: إن معنى: ((لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) يعني: إلا بعلم، ففيه الإشارة إلى أن العلم سيصل إلى اختراع ما ذكر، وقد حصل ذلك أخيراً كما هو مشاهد، وهذا غلط؛ لأن سياق الآية لا يفيد ذلك ولا يساعد عليه، بل الخطاب فيها لتعجيز الثقلين وإعلامهم أنهم لا يقدرون على الخروج من نواحي السماوات والأرض هرباً من يوم الحساب.
((إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) أي: بقوة، ولا قوة لهم على ذلك، وهذه الطائرات وسفن الفضاء لم تخرج عن أقطار السماوات والأرض، ولا يمكن أن تخرج عنها أبداً، وإنما هي تطير داخلها مهما أبعدت في طيرانها، وحتى لو خرجت خارج المجرة أو خارج كل المجرات القريبة مثلاً فهم ما زالوا في داخل أقطار السماوات، حتى إنهم إلى الآن لا يعرفون حدود سماء الدنيا.
ولم يخرج أحد عن أقطار السماوات إلا النبي محمد ﷺ ليلة المعراج حيث تجاوز السماوات السبع إلى سدرة المنتهى وإلى الجنة، وكان ذلك إكراماً خاصاً به صلى الله عليه وآله وسلم، فهل تجاوزت طائرة أو سفينة فضاء السماء الدنيا؟ بل هل هي وصلت أصلاً إلى حدود السماء الدنيا؟ نعم أشار القرآن إلى الطائرات بأنواعها بإشارة صريحة في قوله تعالى وهو يذكر نعمته علينا في خلق المواصلات حيث قال: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨] يعني: من وسائل المواصلات التي سوف تصنعونها وتخترعونها وتكون سريعة جداً، وهذا أشرنا إليه من قبل في تفسير سورة يس، وتكلمنا في بحث مفصل عن إخبار القرآن في عدة آيات وكذلك السنة في بعض الأحاديث عن هذه المواصلات الحديثة من السيارات والطائرات ونحوها.
أما قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾ [الحج: ١٥] أي: بحبل، ﴿إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج: ١٥] يعني: إلى سقف الحجرة، ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥] فالشاهد أن السماء تطلق لغة على السقف وغيره، والسحاب يطلق عليه سماء، قال عز وجل: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [المؤمنون: ١٨] السماء هنا المقصود بها: السحاب؛ لأنه يعلونا، أيضاً الغلاف الجوي سماء: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ [الأنبياء: ٣٢] فالغلاف الجوي سقف محفوظ يحفظ الأرض والكائنات الحية من الإشعاعات الضارة التي قد تبيد الحياة، والكواكب يطلق عليها سماء؛ لأنها تعلونا، فقول الجن: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ﴾ [الجن: ٨] يعني: أن الجن لا ينفذون إلى ما فوق السماء الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا﴾ [الجن: ٨] أي: حراسة السماء لنزول القرآن، وهذه كانت من إرهاصات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أمراً عظيماً سوف يحدث، لذلك حرست السماء حتى لا يختطف الجن الوحي فيخلطوه بالكذب كما هو معلوم في الأحاديث.
﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ﴾ [الجن: ٨] لا تعني أبداً أنهم قد اخترقوا أو نفذوا من أقطار السماوات والأرض، خاصة وأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا)) تهديد، ((لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) أي: لابد لكم من قوة وقدرة على الاختراق، وأنى لكم هذه القدرة التي تمكنكم من أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض.