تفسير قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
أشار إلى بعض الآلاء التي هي في البحرين العذب والملح بقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٢٢ - ٢٣].
قوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ هذه نعمة جديدة وتوبيخ جديد للجن والإنس على عدم شكر هذه النعمة، أو على التقصير في شكر هذه النعمة.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: كبار الدرر أو الدر وصغاره، والمرجان: الخرز الأحمر المعروف، وإنما قيل منهما مع أنه يخرج من أحدهما وهو الملح؛ لأنه لامتدادهما يكون خارجاً منهما حقيقة، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم.
قال الناصر: وهذا هو الصواب، ومثله قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] أي: من إحدى القريتين، لكن هو إذا كان من إحدى القريتين فيصدق عليه أنه خرج من مجموع القريتين، كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠] وليس هناك رسل من الجن، وإنما أتى الرسل من الإنس فقط، فيصدق أيضاً أن يقال: إن الرسل بعثوا من مجموع الإنس والجن، ولا يتعارض هذا مع كونهم من الإنس فقط، فهذا مذهب من يقول: إن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من الملح فقط، قالوا: ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا)) من أحدهما وهو الملح، والمقصود: يخرج من مجموعهما فلا يتنافى مع كونه يخرج من الملح فقط، وكما يقال: فلان من أهل مصر، هذه صفة، وإن كان من محلة منها، كأن يكون من الإسكندرية مثلاً أو من المنيا أو غيرها، فيكون من أهل مصر، ولا تعارض بين الاثنين.
يقول: ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس لتحليهم بها كما يشير له قوله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ [فاطر: ١٢]، قال سبحانه: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، ولو تأملنا هذه الآية التي أوردها القاسمي للاستشهاد هنا على نعمة الله سبحانه وتعالى في قوله: ((وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا)) فسوف نبدأ بالحديث عن هذا الباب الشائع عند المفسرين، والذي تناقلوه جيلاً بعد جيل، وهو الذي شرحناه آنفاً، وهو أن المقصود: يخرج منهما، يعني: من أحدهما وهو الملح، بناءً على أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان فقط من الملح، لكن إذا تأملنا هذه الآية: ((وَمِنْ كُلٍّ)) وهذا التنوين هو تنوين تعويض، وهو تعويض عن اسم، فعندما تقول: كل إنسان قائم، فيمكن أن تحذف كلمة إنسان وتنون كل فتصبح كلٌ قائم، فهذا التنوين ينوب عن الاسم، فكذلك هنا: ((وَمِنْ كُلٍّ))، يعني: من كل من البحرين.
﴿تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ [فاطر: ١٢]، اللحم الطري: الأسماك التي تأكلونها من هذا النوع ومن هذا.
فإذاً قوله هو: ((وَمِنْ كُلٍّ)) ينبغي أن يشمل أيضاً قوله: ((وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا))، وهذا يتعارض مع ما سبق، وسوف نوضح هذا إن شاء الله بالتفصيل.
فلما كان خروج هذين الصنفين اللؤلؤ والمرجان نعمة على الناس قال تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، وهي كما ذكرنا في أمثالها من قبل.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ﴾ قال ابن عباس: أي: أرسلهما، وقال ابن زيد: أي منعهما أن يلتقيان بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما.
وعلماء المسلمين والمفسرون في ذلك الوقت لم يكونوا قد أطلعوا على هذه الدراسات الحديثة والتصوير الذي يتم من الفضاء والدراسات بالآلات الحديثة وغير ذلك، لكنهم في ضوء القرآن الكريم فهموا أن بينهما برزخاً لا يبغيان.
والمراد بقوله: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ)) الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ [الفرقان: ٥٣] أي: أرسلهما، ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٥٣] أي: حدود فاصلة بين الاثنين.
﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ﴾ يعني: جعل بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض، لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا، وهنا ابن كثير يفسرها بأن البرزخ حاجز أرضي، في حين أن الآية أوضحت أن المقصود أنه حينما يكون الماء مجاوراً للماء تكون بينهما منطقة البرزخ أو هذا الحاجز.
لكن لا شك أن التفسير أحياناً يتأثر بمستوى الدراسات العلمية حسب عصر كل مفسر، وهذا يعتبر من التراث البشري؛ لأن ذلك في حدود علمه، فهي كمعلومات بشرية تركها الله سبحانه وتعالى للبشر يكتشفونها بمرور الأزمان.
فلا شك أن قوله: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ﴾ [الرحمن: ١٩ - ٢٠]، إذا كان بينهما البرزخ من البر ومن الأرض فليس هذا التقاءً ولا تظهر بذلك آية، وإنما الآية العظمى في أن يلتقيا بالفعل دون أن يبغي أحدهما على الآخر ويضمحل فيه.
يقول ابن كثير: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ أي: من مجموعهما، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى، كما قال تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠]، والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن، وقد صح هذا الإطلاق، واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل: هو صغار اللؤلؤ، وقيل: كباره وجيده، وقيل: نوع من الجواهر أحمر اللون.
أما قوله: ((وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)) فاللحم من كل من الأجاج والعذب، والحلية إنما هي من الملح دون العذب، وهذا التفسير بما كان يعرفه ابن كثير من الثقافة السائدة في ذلك الوقت.
يقول ابن كثير: ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض امتن بها عليهم فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).