أثر العلم باسمي الله عز وجل (الأول والآخر)
والعلم بهذه الأسماء الأربعة ومعانيها له أثر عظيم في دفع الوسوسة ورد كيدها، أشار إلى ذلك حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما، فقد أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي زميل قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: (ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله! ما أتكلم به)، يعني: وساوس، ومن شدة بغضه لها لا يتجاسر على أن ينطق بها تعظيماً لله سبحانه وتعالى.
فقال لي: (أشيء من شك؟ قال: وضحك، قلت: بلى، قال: ما نجا من ذلك أحد حتى أنزل الله عز وجل: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [يونس: ٩٤]، قال: فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: ٣]).
لأن كيفية الوسوسة هي كما جاء في حديث آخر: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ يقول النبي عليه السلام: فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله.
ثم لينته) أي: يتوقف عن الاستطراد في التفكير.
كذلك ابن عباس رضي الله عنهما هنا يدلنا على علاج آخر، وهو أن تقول: (هو الأول والآخر)، أي: هو الأول الذي ليس قبله شيء، وإلا لزم التسلسل، فلو أنك قلت: ربنا خلق الكون وخلق المخلوقات، فتقول: من خلق الإله؟ والعياذ بالله! لو أنك افترضت وقلت: خلقه خالق آخر، فالخالق الآخر من خلقه؟ سوف تقول أيضاً: خلقه خالق ثان، وهكذا يلزم التسلسل، وهذا محال! لكن إذا تعبدت باسمه الأول الذي ليس قبله شيء، فهو الذي أوجد ما عداه من المخلوقات سبحانه لم يرد عليك هذا، فالله وحده هو الخالق الذي لم يسبق وجوده عدم، فحينما تقول: آمنت بالله، وتتلو هذه الآية: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: ٣]، فأنت ترد على الشيطان وسوسته، ولذلك جاء في بعض الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) واسم الشيطان الوسواس الخناس، فإذا تأملت معنى الوسواس الخناس نجوت من وسوسة الشيطان، ووسوسة صيغة مبالغة.
أي: كثير الوساوس، وهو يوسوس إذا غفل الإنسان عن ذكر الله.
فكما أنه كثير الوسواس فهو كثير الهرب إذا ذكرت الله، فإذا وسوس لك وذكرت الله خنس، أي هرب وانكمش وبعد عنك، فلذلك إذا سمع الأذان يولي ويهرب لأنه يكره الأذان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أذن المؤذن ولى الشيطان وله ضراط).
فأعظم ما يدفع به الوسواس هو ذكر الله سبحانه وتعالى، لا كما قال أحد ملاحدة أطباء النفس في مصر، وكان في حديث مع إذاعة لندن، وأنا سجلته في الحقيقة؛ لأني ذهلت من الكلام، وكان مما قال: إن بعض الناس يرون أن علاج الموضوع هذا أن يتخلص الإنسان أصلاً من فكرة الله! وطبعاً هذا ليس بغريب عليه؛ لأنه في وسط الكلام قال: والحقيقة أن من الناس الذين يثيرون موضوع الوسواس المسلمين وإخواننا اليهود! وهذه أول مرة أسمع واحداً يقول: إخواننا اليهود! فقد قال الناس ما قالوا، وسمعنا كثيراً من يقول: إخواننا كذا، وإخواننا كذا، وإخواننا كذا، لكن ما سمعنا أحداً يقول: إخواننا اليهود! فهذا شيء شاذ جداً.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وأرشد من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين، إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ أن يقرأ: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: ٣].
كذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لـ أبي زميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله: (ما شيء أجده في صدري؟ -يعني: من هذه الوساوس- قال: ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به -من قوة الإيمان وتعظيمه لله- قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قلت: بلى، فقال لي: ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزل الله عز وجل: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [يونس: ٩٤]، قال: فقال لي: فإذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: ٣]).
وقوله: (ما نجا من ذلك أحد).
يعني: ما نجا من ذلك البلاء أو من ذلك الخاطر أو من ذلك الوسواس الوارد عليك، لكن هل أنت تسعى وراء الشك كما يفعل البعض من الجهلة؟ وأذكر عندما كنت في المدرسة الثانوية أني رأيت إحدى اللافتات وقد كتب فيها الحكمة التالية: كلما ازددت شكاً ازددت يقيناً.
وكأن كاتبها أو قائلها يرغب في الشك، وبعض الناس يقولون لك: لازم أنك تبدأ بالشك، فيظلون يتكلمون عن لخبطة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وعفا عنه! فليس عليك أن تتنقل بين الفرق الضالة بحثاً عن الحق، فإذا كان الله سبحانه وتعالى حفظ لك فطرتك وإيمانك وأضاء قلبك بنور اليقين، فلا تهدم هذا اليقين ثم تعود للشك، فينبغي ألا تبتلعوا السم في هذا الكلام المموه، الذي يقول: إن الشك هو أول مراتب اليقين.
بل الشك في الحق بلاء، ومن نعمة الله أن يحفظ الله سبحانه وتعالى على الإنسان فطرته؛ لأن أي إنسان سليم الفطرة يهتدي للتوحيد بسلاسة؛ لأن الفطرة مغروسة في داخله.
وعن طريق فهم هذه الأسماء الأربعة الواردة في هذه الآية الكريمة: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [الحديد: ٣] تتحقق أنواع من العبودية.


الصفحة التالية
Icon