تفسير قوله تعالى: (وما لكم لا تؤمنون بالله)
قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: ٨ - ٩].
((وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) أي: وما يصدكم عن الإيمان بالله وقد ظهرت دواعيه واتضحت سبله لذويه.
((وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ))، والرسول ﷺ يدعوكم بطريق النظر والتفكر إلى الإيمان بالذي رباكم بنعمه، وصرفكم بآلائه؛ فوجب عليكم شكره.
((وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ)) بالإيمان إذ ركب فيكم العقول، ونصب الأدلة، ومكنكم من النظر بل أودع في فطركم ما يضطركم لذلك إذا نبهتم، وقد حصل ذلك بتنبيه الرسول؛ فما عليكم إلا أن تأخذوا سبيله فطرة الإيمان، وهي موجودة وكامنة في قلب كل إنسان، حتى إذا ما علتها الأغشية أو الصدأ فإن التنبيه من الرسول ودعوته إياكم من شأنها أن تنبهكم إلى هذا الرصيد الباقي في نفوسكم من فطرة الإيمان والتوحيد.
((إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) يعني: إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم، وإن بقي فيكم نور الفطرة الذي جبلكم الله عليه؛ فإن دعوة الرسول تأتي بنور على نور، نور الفطرة مع نور الوحي فينبهكم ويحثكم على الإيمان.
((هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ))، أي: حججاً واضحة وبراهين قاطعة.
((لِيُخْرِجَكُمْ)) أي: ليخرجكم الله، أو ليخرجكم عبده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بآيات الله ((مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ))، أي: من ظلمات الجهل والكفر والأهواء المتضادة إلى نور الهدى واليقين الذي تشعر به النفوس، وتطمئن به القلوب.
((وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ))، أي: في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهدايتكم، إزاحة للعلل، وإزالة للشبه.
ولما كان إنزال هذه السورة للأمر بالإنفاق في سبيل الله والترغيب فيه؛ أكثر الله سبحانه وتعالى من ذكره في ضروب من البيان وفنون من الأحكام، ولذلك قال الله تبارك وتعالى بعد أن أمرهم بالإيمان: ((وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول)) أي: وقد توافرت الدواعي التي تؤزكم أزاً على هذا الإيمان.
وإن كان قد قال: ((وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه))، فقد قال أيضاً: ((وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي: يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال، وإذا كان كذلك فما أجدر أن ينفق المرء في حياته، ويتخذه له ذخراً يجده بعد مماته و: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، فإذاً علام البخل ولله ميراث السموات والأرض، أي: يئول إليه كل ما في السماوات والأرض، فلماذا تضنون بما هو زائل عنكم لا محالة؟ يقول الشهاب رحمه الله تعالى: هذا من أبلغ ما يكون في الحث على الإنفاق؛ لأنه قرنه بالإيمان أولاً لما أمرهم به، ثم وبخهم على ترك الإيمان في قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ مع سطوع براهينه، ووبخهم أيضاً على ترك الإنفاق في سبيل من أعطاه لهم ((وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله)) أي: لماذا لا تنفقون في سبيل الله المال الذي آتاكم الله إياه، فالله سبحانه هو الذي آتاكم هذا المال وأمركم بإنفاقه؟ فهذا توبيخ على ترك الإنفاق في سبيل الله الذي أعطاهم هذا المال مع أنهم على وشك الموت، وعدم بقائه لهم إن لم ينفقوا، كما يقول العامة: إن الأكفان لا جيوب لها، وإن أغنى أغنياء الأرض لن يدفن بأمواله وبذهبه؛ فلابد أن يترك المال أو يتركه المال.
وقد يصيبه الفقر كما يحصل لكثير من الناس، فمالك هو ما أنفقت وما قدمته بين يديك، ومال وارثك هو ما خلفت، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه.
وقوله: ((ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله)) عام يشمل كل خير يوصل الناس إلى الله سبحانه وتعالى، فهو أعم من الجهاد وغيره، وقصر بعضهم إياه على الجهاد؛ لأنه فرضه الأكمل، ولأنه النوع الأكمل الذي ينطبق عليه قوله: ((في سبيل الله)) من باب قصر العام على أهم أفراده وأشملها، فهو عام يراد به الخصوص؛ باعتبار أن هذا الخاص هو أهم أفراد هذا العام، لا سيما وسبب النزول كان للنفقة في سبيل الله في الجهاد.
((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ))، والفتح يراد به فتح مكة أو صلح الحديبية، وهناك ارتباط وثيق بين فتح مكة وصلح الحديبية؛ لأن صلح الحديبية هو الفتح الأعظم، وهو الذي مهد لكل ما تلاه من فتوحات، كفتح خيبر وفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً؛ لأن صلح الحديبية أوقف الصراع المسلح مع المشركين، ثم إن المشركين بدءوا يعملون عقولهم ويستمعون للأدلة ويقتنعون بالإسلام؛ فمن ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً ببركة هذا الفتح الأعظم.
إذاً: الفتح المبين الذي ورد في أول سورة الفتح إنما هو فتح الحديبية، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: ١]، فقوله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ))، يعني: أنفق وقاتل لتعلو كلمة الحق، وجاهد في سبيل الله بماله وبنفسه، فلا يستوي هؤلاء ومن أنفق من بعد وقاتل في حال قوة الإسلام وعزة أهله، فكانت شدة الحاجة إلى نصرة الدين والتضحية في سبيله في ذلك الوقت أعظم وأشد، بخلاف ما بعد الفتح من كثرة الناس الذين دخلوا في دين الله أفواجاً، فحذف الثاني لوضوح الدلالة عليه؛ فإن الاستواء لا يتم إلا بذكر شيئين.
فنقول: لا يستوي من فعل كذا ومن فعل كذا، لكن حذف الثاني هنا لدلالة السياق عليه، أو لوضوح الدلالة عليه: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)) وتكون تقدير الكلام: لا يستوي هو ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، لكن حذف لوضوح الدلالة عليه؛ على أنه أشير إليه بقوله مستأنفاً عنهم زيادة للتنويه بهم: ((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا))، فبهذا يفهم المحذوف من سياق العبارة السابقة، وهي قوله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ))) أي: مع الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا.
((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا))، أي: لعظم موقع نصرة الرسول ﷺ بالنفس وإنفاق المال في تلك الحال، وفي المسلمين قلة وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد؛ فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد بخلاف ما بعد الفتح؛ فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قوياً والكفر ضعيفاً، ويدل عليه قوله تبارك وتعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ [التوبة: ١٠٠]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)، وهذا فيه نهي عن سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإيذان برعاية حرمتهم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
وهذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهنا مراعاة الأولية والأسبقية في الأعمال الصالحة، وفي بعض الأحاديث في مراعاة أولويات الإمامة في الصلاة، قال (فإن كانوا في السن سواءً فأقدمهم هجرة)، وهذه إشارة إلى نوع من السبق.
وقال في الإكليل: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق.
فللصحابة مراتب، ولابد أن يشكل هذا جزءاً من اعتقادنا، ولذلك نجد مسألة الإيمان بفضل الصحابة ومراعاة حرمتهم وترتيبهم في الأفضلية مما ينص عليه في كل كتب العقيدة السلفية، وسبق أن نبهنا أن بعض كتب العقيدة كشرح الطحاوية لا تستوعب كل مسائل الإيمان والعقيدة، وإن كانت تستوعبها في الغالب وتركز على المسائل التي جرى فيها الخلاف بين أهل السنة ومن خالفهم من الفرق، ولذلك كل مسألة توضع للرد على فرقة انحرفت في هذا الباب بالذات، فمن ذلك نجد الكلام على مكانة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهذا أصل من أصول العقيدة السلفية؛ لأن الصحابة هم شهود الشرع، فإذا فتح باب الطعن في الشاهد؛ فإن ذلك يفتح باب الطعن في المشهود، وهو القرآن الكريم والسنة، لأن الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة هم الصحابة، ففتح باب الطعن فيهم حيلة لإبطال دين الإسلام بالكلية، لأن هؤلاء إذا خانوا -كما يقول الشيعة لعنهم الله وقبحهم الله وكما يقول الخميني الهالك وغيره من أعداء الإسلام الذين يدعون الإسلام- فقد بطلت الشريعة.
وقد كثر الكلام في الفترة الأخيرة على موضوع الصحابة، وخاصة أن بعض الأشرطة انتشرت لتتكلم عن ذلك بالتفصيل، فسبق أن نبهنا إلى أن عموم الناس بل خواصهم أيضاً ينبغي أن ينشغلوا بدراسة مناقب وفضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما إثارة ما شجر بين الصحابة ابتداءً من غير داع يوجب ذلك، فهذا يخالف منهج السلف في أن واجبنا أن نمسك عما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لكن إذا وجد الإنسان قوماً يكثرون الطعن في الصحابة ويوردون الشبهات على بعض الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، أو وجد في بعض مناهج التعليم عدوان على بعض الصحابة؛ ففي هذه الحالة ينبغي الرد على هذه الشبهات.
ومن الشبهات تفسير الحديث تفسيراً منحرفاً، أو فهم آية وتأويلها تأويلاً لا يتوافق مع عقيدتنا في الصحابة، أو التزوير الذي حصل في التاريخ؛ فحين يتصدى بعض الباحثين لمثل هذه القضية فليبحثها ضوء منهج أهل الحديث وليس منهج المؤرخين، ومنهج أهل الحديث يعنى بصحة السند والمتن وعقيدة السلف، وعندئذ فلا مانع من ذلك لمن تعرض لشيء من الشبهات.
كذلك يوجد الآن كتاب قيم في هذا الباب،


الصفحة التالية
Icon