معنى قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه)
قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٢٠٣].
قوله: (من تعجل) أي: بالنفر من منى بعد رمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث، واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام فلا يأثم بهذا التعجيل.
فيرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، كل جمرة يرميها بسبع حصيات، ثم من رمى اليوم الثاني، وأراد أن يدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمي يومها فهذا سائغ له، بشرط ألا تغرب عليه الشمس وهو في منى، أي: إذا رمى الجمرات ونوى أن يتعجل لكنه قبل أن يخرج من منى ويغادرها غربت الشمس عليه، فيجب عليه في هذه الحالة أن يبيت، فمن أراد التعجل يجب عليه أن يخرج من منى قبل غروب الشمس.
(ومن تأخر) يعني: من أخر الرمي أو بقي في منى حتى رمى في اليوم الثالث (فلا إثم عليه)، أي: في تأخره، والسُّنة هي التأخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة.
ولا يقال هذا اللفظ -أي: (فلا إثم عليه) - في حق من أتى بتمام العمل، والأصل أن كلمة (فلا إثم عليه) تقال في حق المقصر، ولا تقال أصلاً في حق من كمّل العمل وأتى بكماله، فقوله: (ومن تأخر فلا إثم عليه) هي مجرد مشاكلة للفظ الأول في قوله: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه)، وإلا فإن الذي يأتي بالعبادة على أكمل وجوهها لا يقال في حقه: (فلا إثم عليه)، ولكن هذا من باب المشاكلة، ولها نظائر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، هل السيئة التي تعاقب أنت فيها بالمثل تسمى سيئة؟ لا، فمثلاً: القصاص أو العقوبة بالمثل هي عدل، وسميت سيئة فقط لمجرد المشاكلة؛ لاشتمالهما في لفظ واحد مشاكلة للفظ الثاني.
كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦]، (عوقبتم به) هذه يراد بها الإيذاء الذي بدئ به، فهل هذا الابتداء للإيذاء يسمى عقوبة؟ كلا! لا يسمى عقوبة، لكن هذا من باب المشاكلة.
كذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]، هل مقابلة المعتدي بمثل عدوانه يسمى عدواناً؟ في الحقيقة ليس عدواناً، لكنه عدل، لكن تسميته بالاعتداء من باب المشاكلة اللفظية، ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا عدوان، فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى؛ لأن المقصود نفي الاسم عنه، يعني: أنه من حيث المعنى صحيح، فمن تأخر فلا إثم عليه.
وقيل: رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة، أي: المقصود: فلا إثم في الحالتين، بمعنى: إباحة التعجل وإباحة التأخر.
وقيل: رفع الإثم أنه حق ظهورهما بإقامتهما الحج، فعجل أو تأخر، (فلا إثم عليه) يعني: ستغفر له ذنوبه، أو ستحط عنه آثامه بسبب أنه أدى الحج بشرطه.
(فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى سيغفر له ذنوبه وآثامه.
كذلك: (ومن تأخر فلا إثم عليه) أيضاً له نفس هذا الثواب، وعلى ذلك دل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، والشرط في ذلك هو التقوى، لذلك قال: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: ٢٠٣]، فما دام الأول اتقى الله، والثاني اتقى الله، فحج ولم يرفث ولم يفسق كان جزاءه رفع الآثام عنه وتطهيره منها.
(لمن اتقى) أي: أن الذي ذكر من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر أو من الأحكام إنما هو لمن اتقى؛ لأنه هو الذي ينتفع بهذا الحج، فالذي ينتفع بالحج هو الذي يتقي الله تبارك وتعالى، كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٨]، وكذلك قوله تعالى: (هدى للمتقين)، فكذلك هنا قوله: (فلا إثم عليه) إنما يكون هذا (لمن اتقى).
(واتقوا الله) أي: في جميع أموركم.
(واعلموا أنكم إليه تحشرون) أي: للجزاء على أعمالكم، وهذا تأكيد للأمر بالتقوى، وحث على التشديد في أمرها؛ لأن من تصور أنه لابد له من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى تقوى الله عز وجل.
والحشر: اسم لما يقع من أحداث ابتداء من خروج الموتى من الأجداث -من القبور- للبعث والنشور إلى انتهاء موقف الحساب ودخول الناس الجنة أو النار، هذا هو ما يطلق عليه اسم: الحشر.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (واذكروا الله): بالتكبير عند رمي الجمرات.
(في أيام معدودات): وهي أيام التشريق الثلاثة.
(فمن تعجل) أي: استعجل بالنفر من منى.
(في يومين) أي: في ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار، و (تعجل) أي: بأن يرمي الجمار ثم ينفر.
(فلا إثم عليه): لا إثم عليه في التعجيل.
(ومن تأخر) أي: بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره، (فلا إثم عليه) يعني: بذلك.
والمقصود: أنهم مخيرون في ذلك، ونفي الإثم في قوله: (فلا إثم عليه لمن اتقى) أي: اتقى الله في حجه.
(واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) يعني: في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.