تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم)
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [البقرة: ٢٠٦].
(إذا قيل له) أي: تذكيراً وموعظة له، (اتق الله) يعني: في النفاق، واحذر سوء عاقبته، أو (إذا قيل له اتق الله) أي: في هذا الإفساد الذي تفسده في الأرض، وهذا الإهلاك، وهذا الجدال بالباطل.
(أخذته العزة بالإثم) أي: حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم وهو: التكبر.
فيقول مثلاً: نحن في حضارة منذ سبعة آلاف سنة، ولا يمكن أن يعقب طارئ يغيرنا عن عقيدتنا! فقوله تبارك وتعالى: (أخذته العزة) أي: يتكبر عن الانقياد للحق، تحمله الأنفة وحمية الجاهلية، يحمى ويحمر أنفه، أي: بحمية الجاهلية على الفعل بالإثم، وتدفعه هذه الحمية إلى إثم التكبر وعدم الانقياد للحق.
أو المعنى، (أخذته العزة بالإثم) أي: أخذته الحمية للإثم الذي في قلبه فمنعته عن قبول الناصح.
(فحسبه جهنم) أي: فتكفيه جهنم إذا صار إليها واستقر فيها جزاءً وفاقاً.
(ولبئس المهاد) أي: الفراش الذي يستقر عليه بدل فراش عزته، والمهاد والمهد معروف، وكل شيء وطيء يطلق عليه: ممهد، كطريق ممهد، والمهاد يجعل تارة جمعاً وتارة يجعل الآلة، (مهاد) جمع مهد، أو (مهاد) الآلة التي هي الفراش.
وجعل جهنم مهاد الظالم كما جعل العذاب مبشراً به في قوله تبارك وتعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]، فكلمة التبشير أو البشارة أو البشرى مأخوذ من البشرة؛ لأن الإنسان إذا سمع الخبر الحسن الطيب يظهر على بشرته السرور والانشراح، فلذلك سميت البشرى لأثرها على البشرة وعلى الجلد والملامح.
كذلك في هذه الآية فإن الله سبحانه وتعالى يتهكم بهم ويقول: (فبشرهم) وهم إذا سمعوا كلمة تبشرهم ينشرحون، فإذا صدموا بكلمة: (بعذاب أليم) يكون أمعن وأوغل في معاقبتهم وتوبيخهم والتنكيل بهم.
فكذلك هنا قال تبارك وتعالى: (ولبئس المهاد)، والمهاد: هو المكان الذي ينام عليه الإنسان أو يستريح أو يفترشه، فمهادهم هو جهنم، فهذا من نفس الباب.
وقال الحاكم عبارة ينبغي حفظها والاهتمام بها جداً وهي قوله: هذه الآية تدل على أن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله فيقول: عليك نفسك.
وهذا حال أغلب الناس، وبعضهم إذا قلت له: اتق الله، يقول لك: أنا أتقي الله أحسن منك! أو يقول: عليك بنفسك، أو: هذا لا يخصك.
إلى غير ذلك من العبارات الغليظة.
فمن صور أخذ العزة بالإثم عند المنصوح أنه إذا قيل له: اتق الله، يقول: عليك نفسك.
فالإنسان إذا قيل له: اتق الله.
عليه أن يحمر وجهه ويصفر وتنتابه الرعدة والخوف والوجل والخشية من هذا التحذير، لا أن يتكبر على من يقول له: اتق الله، فقد قيلت لأشرف خلق الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: ١]، بل جعلها الله وصية لجميع الأمم الأولين والآخرين، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: ١٣١] أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية من الأعمال الصالحة.
قال الزمخشري: ومنه: رد قول الواعظ.
فهو يدخل في هذا الإثم العظيم.
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الحج: ٧٢].
ولما أتم تعالى الإخبار عن هذا الفريق من الناس الضال أتبعه بقسيمه المهتدي، ليبعث العباد على تجنب صفات الفريق الأول والتخلق بنعوت الثاني، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: ٢٠٧].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى في الآية السابقة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ٢٠٤] أي: ولا يعجبك في الآخرة لمخالفته لاعتقاده.
إذا تكلم في الدنيا فيحسن الكلام ويعجبك كلامه جداً في الدنيا، كما يتكلم كثير من الناس في السياسة في الرياضة في الفن في أسماء الممثلين أو أسماء اللاعبين، تجده موسوعة في هذه الأمور الدنيوية، وإذا سمعت له في الآلات والأجهزة وكافة عروض الدنيا فتسمع منه ما يعجبك فقط في الدنيا ولو كانت حراماً، بخلاف الآخرة، فإذا أتى أمر الآخرة فكالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لا يفقهون شيئاً ولا يعرفون شيئاً من أمور الآخرة مع أنها خير وأبقى، وهذا هو مفهوم هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ٢٠٤]، إذا تكلم في الآخرة لا يعجبك، إما لأنه معرض عن الآخرة، وإما لفساد اعتقاده في الآخرة، كأن يكون عابداً للمسيح، أو يكون عابداً للأوثان أو غير ذلك من العقائد الفاسدة في الآخرة.
(وهو ألد الخصام) أي: شديد الخصومة لك ولأتباعك بعداوته لك، وهو الأخنس بن شريق كان منافقاً حلو الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم، يحلف أنه مؤمن به ومحب له، فيدنو من مجلسه، فأكذبه الله في ذلك، ومر بزرع وحمر -أي: حمير لبعض المسلمين- فأحرقه وعقرها ليلاً، كما قال تعالى: (وإذا تولى) أي: إذا انصرف عنك، (سعى) أي: مشى، (في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) وهذا من جملة الفساد.
(والله لا يحب الفساد) أي: لا يرضى به.
(وإذا قيل له اتق الله) أي: في فعله.
(أخذته العزة) أي: حملته الأنفة والحمية على العمل بالإثم الذي أمر باتقائه.
(فحسبه جهنم) أي: كافيه جهنم.
(ولبئس المهاد) أي: لبئس الفراش هي.


الصفحة التالية
Icon