تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوماً)
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [المجادلة: ١٤].
((ما هم منكم)) يعني: ليسوا أهل دين فيكونوا من المسلمين، ((ولا منهم)) يعني: من اليهود، كقوله تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾ [النساء: ١٤٣] وهذا شأن هؤلاء المنافقين في كل زمان ومكان، عندما يسارعون في موالاة الكفار يقولون: إذا تغلب هؤلاء نقول لهم: كنا معكم، وإذا تغلب هؤلاء ندلي إليهم بما كان من مودة من قبل، فهم لا يلتمسون رضا الله، وإنما يلتمسون هذا الأمر عند هؤلاء وعند هؤلاء، فكل من عمل عملاً لا يريد به وجه الله سبحانه وتعالى فإنه ينقلب عليه بعكس ما أراد ويعامله الله بنقيض قصده، فالذي يريد أن الكفار يرجعون أعزة لا يرجع إلا في ذل وهوان، فيقول الشاعر: جاء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت عنه ولا أرضى عنه العدا يقول تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وذلك قولهم لرسول الله ﷺ (نشهد إنك رسول الله)، يحلفون ويستجنون بالأيمان فيجعلون الأيمان الكاذبة وقاية وجُنة تحميهم من العقاب الدنيوي.
فهم في الحقيقة كاذبون غير مصدقين بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يحلفون أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
((وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) يعني: وهم يعلمون أن المحلوف عليه كذب بحت.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قال بعض أهل العلم: معنى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) يعني: ألم ينته علمه إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم؟ فالرؤية هنا رؤية علمية.
ولفظة: ((أَلَمْ تَرَ)) يزعم البعض أنها لا تعدى إلا بحرف الجر الذي هو إلى، لكن الراجح أنها في الغالب لم تأت في القرآن الكريم إلا متعدية بإلى، لكن تعديتها إلى المفعول بنفسها صحيح بدون حرف جر، وهذا يقع في اللغة العربية، ومن شواهد ذلك قول امرئ القيس: ألم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب والمراد إنكار الله على المنافقين توليهم القوم الذين غضب الله عليهم وهم اليهود والكفار، وهذا الإنكار يدل على شدة منع ذلك التولي، وأن هذا الشيء من كبائر المحرمات، وقد صرح الله بالنهي عن ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: ١٣]، ((مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ))، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون المنافقين ليسوا من المؤمنين ولا من القوم الذين تولوهم وهم الذين غضب الله عليهم من اليهود، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾ [النساء: ١٤٢ - ١٤٣].