تفسير قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم)
قال تعالى: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحشر: ٦].
الضمير في قوله تعالى هنا: ((مِنْهُمْ)) يعود إلى بني النضير، والفيء: هو المال الذي يؤخذ من الكفار بدون قتال، سواء فروا وتركوه، أو أُجلوا عنه.
وقد قال بعض العلماء: إن كلمة الفيء معناها الرجوع، من فاء بمعنى رجع، والمعنى: أن هذا المال إنما خلقه الله سبحانه وتعالى ليعبد به، وليستعمل في طاعته وفيما أحله، لا فيما حرمه، فبما أن هذا المال رجع إلى المسلمين الموحدين المجاهدين، فقد رجع إذن إلى أهله الذين يستحقونه، ويستدل على ذلك بقرآن منسوخ وهو: (إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة).
إلى آخره.
قوله: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ﴾ أي: لما كان إخراج اليهود مردُّه إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم من الرعب، وبما سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الفيء لرسول الله ﷺ لم يشاركه فيه غيره، ففي حادثة بني النضير لم يقاتل المسلمين قتالاً حقيقاً، وربما كانت هناك مبادئ قتال، إلا أنه لم يحصل قتال، فكان اليهود في غاية اليقين بأنهم مانعتهم حصونهم من الله، وكان المسلمون أنفسهم لا يؤمِّلون على الإطلاق أن يهزموا اليهود؛ لشدة منعتهم، وكثرة عدتهم وقوتهم، فهزمهم الله سبحانه وتعالى بأن قذف في قلوبهم الرعب، وبأن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا المال بالذات لا يقسم إلا وفق ما يشاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يشاركه فيه غيره.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في سورة الأنفال: اعلم أن النبي ﷺ كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من الغنائم، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال لهما: إن الله كان خص رسوله ﷺ بهذا لشيء ولم يعطه أحداً غيره، فقال عز وجل: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: لم تتعبوا أنتم فيه، ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحشر: ٦]، والنبي ﷺ والله! ما احتجبها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، مع أن الله أباحها له، وفوض الأمر إليه، فقد أعطاكموها وبثها فيكم، ووزعها في المهاجرين حتى بقي منها هذا المال، فكان النبي ﷺ ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله في الفقراء.
فكانت هذه خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء بعدها ما هو أعم من ذلك في قوله تعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)) وهذا عام في جميع القرى، إلا أن الفيء الذي حصل من بني النضير خصوصاً كان خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية مع عمومها مصدراً ومصرفاً فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة.
فقوله عز وجل هنا: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ)) أي: ما أعاد عليه من أموال بني النضير، ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: فما أجريتم على تحصليه خيلاً ولا ركاباً، ولا تعبتم في القتال عليه، والإيجاف مأخوذ من الوجيف، والوجيف: هو سرعة السير.
فقوله: ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ)) أي: ما أجريتم على تحصيله خيلاً ولا ركاباً، ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم، ولم تحتاجوا إلى أن تركبوا الخيل وتسرعوا بها، ولا إلى أن تبذلوا جهداً في ذلك، والإيجاف: من الوجيف، وهو سرعة السير، والركاب: ما يركب من الإبل، وقد غلب فيه كما غلب الراكب على مركوبه، ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ))، أي: من أهل الفساد والإفساد؛ ليقوم الناس بالقسط، ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
يقول الزمخشري: المعنى: أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم يحصلوه من القتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوَّض إليه ﷺ يضعه حيث شاء، أي: أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها، وأخذت عنوة وقهراً، فلما طلبوا القسمة نزلت: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)) إلى آخره، وهذا الحكم عام في جميع القرى، لكن المعني به هنا حادثة بني النضير، فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ)) يعني: ما رده الله على رسوله، وهي أموال بني النضير، ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ))، يعني: فما أوضعتم عليه، والإيجاف: هو الإيضاع في السير، أي: الإسراع في السير، يقال: وجف الفرس إذا أسرع، وأوجفته أنا أي: حركته وأتعبته، ومنه قول تميم بن مقبل: مذاويد بالبيض الحديد صقالها عن الركب أحياناً إذا الركب أوجفوا يعني: أسرع، والركاب: الإبل، واحدها راحلة.
يقول: لم تقطعوا إليها شقة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، قاله الفراء، فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً، إلا النبي ﷺ فإنه ركب جملاً، وقيل: حماراً مخطوماً بليف، فافتتحها صلحاً وأجلاهم، وأخذ أموالهم، فسأل المسلمون النبي ﷺ أن يقسم لهم فنزلت: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ)) إلى آخر الآية، فجعل أموال بني النضير للنبي ﷺ خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها النبي ﷺ بين المهاجرين.