الإيثار في حظوظ النفس لا في الطاعات
يقول السيوطي في (الإكليل): في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا.
وإنما قيد السيوطي مدح الإيثار بأن يكون في حظوظ النفس والدنيا؛ لأن الإيثار في الطاعات لا يمدح، بل نحن في الطاعات مطالبون بالتنافس والمسابقة، وقد عكس الناس الآن هذا الأمر، فصاروا يتنافسون في الدنيا ولا يتنافسون في الدين، والصواب أن يكون هناك إيثار في حظوظ الدنيا كما ستأتي آثار عن الصحابة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم في ذلك، فتؤثر أخاك المسلم بالطعام وبالملبس وبالأموال وتواسيه بذلك، لكن إذا كانت هناك مسابقة في الآخرة فلا إيثار، فمثلاً تجد بعض المسلمين بسبب قلة الفقه في الدين كل واحد منهم يعزم على صاحبه أن يتقدم إلى الصف الأول فيقول له: تفضل تفضل، فيقول الثاني: لا، تفضل أنت!! فالطاعات ليس فيها إيثار؛ لأننا أمرنا بالتنافس في أمر الآخرة، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في الأذان والصف الأول لاستهموا على ذلك)، أي: لحصل بينهم من المشاكل ما لا ينهيها إلا القرعة! وقد كان الصحابة يبتدرون السواري إذا أُذن لصلاة المغرب، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦]، ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الحديد: ٢١]، ومعنى المسابقة أن كل واحد يريد أن يكون هو الأول، فكذلك المسابقة في أعمال الآخرة، فإنه يكره ولا يستحب الإيثار فيها، وقد اختلف أحد الصحابة مع ابنه فيمن يخرج للجهاد، وفيمن يمكث عند النساء والأولاد يرعاهم، فقال له ابنه: والله يا أبي! لولا أنها الجنة لآثرتك على نفسي!! فهكذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفقهون هذا المعنى، فالإيثار إنما يكون في أمور الدنيا، وأما أمور الدين فلا، فمثلاً عندما تسمِّع القرآن على الشيخ لا تضحي بدورك وتعطيه لشخص آخر، بل تسابق ولا تتنازل عن دورك؛ لأن تنازلك هذا فيه معنى الإعراض والزهد في ذلك، فالإنسان في أمور الطاعات والعبادات لا يؤثر على نفسه؛ لأننا -كما قلنا- أمرنا بالتنافس في الآخرة، وأما أمور الدنيا وحظوظها من المال والطعام ونحو ذلك فهذا هو محل الإيثار المستحب؛ فلأجل هذا قال السيوطي هذه العبارة: في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا المقام أعلى من حال الذين وصفهم الله بقوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان: ٨]، وقوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ [البقرة: ١٧٧] إلى آخره، فهاتان الآيتان دلتا على أنهم يحبون ما تصدقوا به، وكقوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢]، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، فهم يحبونه لكنهم غير محتاجين إليه، وليسوا في حالة اضطرار ولا فقر ولا عَوز، وأما هؤلاء المذكورون هنا في هذه الآية فإنهم آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وشدة الحاجة، فهم بلا شك يحبون هذا المال، لكن يزيدون على المذكورين في الآيات الأولى بأنهم محتاجون إلى هذا المال، فقد آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوا، ومن هذا المقام تصدُّق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أبقيت لهم الله ورسوله).
ومثل ذلك الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكان كل واحد منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشرب أحد منهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.