تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم)
قال الله تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: ١٩] أي: المنحرفون الخارجون، وهذه الآية إحدى الآيات التي يستدل بها في حظر التشبه بالكفار.
وفي الآية التالية يقرر أن هؤلاء هم أصحاب النار، ويشير للمؤمنين ليسلكوا طريقاً غير طريقهم، وهم أصحاب الجنة، فطريق أصحاب الجنة غير طريق أصحاب النار ﴿لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: ٢٠] لا يستويان طبيعة وحالاً، ولا طريقاً وسلوكاً، ولا وجهة ومصيراً.
فهنا على مفرق طريقين لا يلتقيان أبداً في طريق، ولا يلتقيان أبداً في سمة، ولا يلتقيان أبداً في خطة، ولا يلتقيان أبداً في سياسة، ولا يلتقيان أبداً في خط واحد في دنيا ولا آخرة، ((أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ))، فيثبت مصيرهم، ويدع مصير أصحاب النار مسكوتاً عنه معروفاً وكأنه ضائع لا يُعنى به التعبير.
ويقول القاسمي في تفسير قوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: ١٨ - ١٩]، قال ابن جرير أي: لا تكونوا كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم فأنساهم فضول أنفسهم من الخيرات، وأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (مفتاح دار السعادة): تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى فريداً عظيماً، وهو: أن من نسي ربه أنساه ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، فصار معطلاً مهملاً بمنزلة الأنعام السائبة، بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه؛ لبقائها على هداها الذي أعطاها أياه خالقها، وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها، فنسي ربه، فأنساه نفسه وصفاتها، وما تكمل وتزكو وتسعد به في معاشها ومعادها، يقول تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: ٢٨]، فغفل عن ذكر ربه فانصرف عليه أمره وقلبه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكوا به نفسه وقلبه، بل هو مشتت القلب مضيعه، مفرط الأمر حيران لا يهتدي سبيلاً.
فالعلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد لسعادته، وكماله، ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستديم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها، وما تزكوا وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته، ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: ١٩] أي: الذين خرجوا عن الدين القيم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وقالوا وغدروا ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا.
ومن المعلوم أن عقوبات الله سبحانه وتعالى تتنوع، فمن العقوبة ما يكون ظاهراً ملموساً محسوساً، ومنها ما يكون خفياً وهو أخطر، والعقوبات الظاهرة: منها عقوبات كونية قدرية كالزلازل والمكر والخسف والصواعق ونحو ذلك، ومنها عقوبات شرعية: كالحدود الشرعية: من رجم وجلد وقطع، ونحو ذلك.
ومنها ما يصيب الإنسان في بدنه، ومنها ما يصيبه في ماله أو في عافيته وهكذا، فقد يعاقب الله سبحانه وتعالى العبد على ذنوبه بمثل هذه العقوبات، وهذه العقوبات ظاهرة واضحة.
وهناك نوع آخر من العقوبات، وهي أخطر العقوبات على الإطلاق وهي: العقوبات الخفية التي لا تظهر ولا يحس صاحبها أنه معاقب، فالإنسان إذا عوقب ربما انتبه، وإذا أحس أن هذا العذاب من الله سبحانه وتعالى إنما هو من جراء ما هو فيه فربما أقلع، وهذا كالزلزال مثلاً الذي حصل هنا في مصر، أو الذي حصل في تركيا، فهذه الأشياء إشارة بلا شك من الله سبحانه وتعالى إلى عدم رضاه عن أفعال العباد، فهذه عقوبة لهم؛ لتذكرهم وتنبههم، قال تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: ٤٢] أي: لعلهم يتوبون، فهذا تنبيه وإيقاظ، وهذه رسائل من الله سبحانه وتعالى إلى العباد.
فأقسى العقوبات ما كان خفياً كهذه العقوبة المشار إليها هنا في هذه الآية: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)) أي: عن أن ينظروا فيما يصلحها، فيزين لهم سوء أعمالهم، فإذا زُيِّن للعبد سوء عمله فرآه حسنا فممَ يتوب؟! فإنه لن يستقبح فعلاً يراه حسنا، فبالتالي يتمادى فيه ولا يستيقظ منه حتى يستدرك، ولذلك تجد الله سبحانه وتعالى كلما أمعن العبد في المعاصي زاده من النعم استدراجاً، حتى إذا أخذه لم يفلته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، فالله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، وأخذه أخذ عزيز مقتدر.
فيسلط الله النسيان على العبد حتى ينسى مصالح نفسه، فينسى الآخرة فلا يراجع نفسه ولا يحاسبها؛ لأن هذه وسيلة التصحيح، فلذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد على معاصيه) أي: على تماديه في المعاصي، والله سبحانه وتعالى يعطيه ويعطيه ويعطيه فاعلم أنه استدراج، ثم تلى قوله تعالى ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤].