تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله)
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: ١٤].
وفي قراءة أخرى: (كونوا أنصاراً لله).
أي: دوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله مثل نصرة الحواريين إذ قال لهم عيسى: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) أي: من يتوجه معي إلى نصرة الله.
((قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)) أي: ننصر دينه وما أمر به، وندعو إليه، ونضحي لأجله بحياتنا.
((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: بعيسى عليه السلام، ونهضت تدعو إلى ما بعث به وتنصر دعوته.
((وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ)) يعني: برسالته، وبالحق الذي معه، قيل: هم اليهود الذين جحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم.
وقيل: كفرت طائفة من أتباعه الذين غلوا فيه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، واقترفوا الشرك، وافترقوا في ذلك شيعاً: فمن قائل إنه ثالث ثلاثة، وهؤلاء قال تعالى فيهم: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣] وهؤلاء هم الكاثوليك الذين يعتقدون بالثالوث، وأن كل إله له الهوية الخاصة به.
ومن قائل إنه ابن الله: ﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠].
ومن قائل إنه هو الله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: ١٧].
وكانت أول كلمة نطق بها المسيح في المهد: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ [مريم: ٣٠] وكذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [آل عمران: ٥١]، وقال تعالى عنه: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: ٧٢].
فانظر إلى دعوة الإيمان كيف فرقتهم مع أنهم من قبيلة واحدة، وهي بنو إسرائيل؛ لكن على أساس الموالاة في الله والبراء من الكفار انقسموا.
فقوله: ((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ))، فهذه هي المعاداة في الله لأقرب الأقربين.
(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا) أي: بعيسى (عَلَى عَدُوِّهِمْ) من اليهود والرومان الوثنيين ((فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ))، أي: غالبين عليهم بالبراهين الواضحة، والحجج الظاهرة، والسلطة القاهرة.
وفيه بشارة للمؤمنين بالتأييد الرباني لهم إذا كانوا متناصرين على الحق، مستمرين عليه، غير متفرقين ولا متخاذلين عنه، كما وقع لسلفهم، فإذا اتفقوا ملكوا، وإذا تفرقوا هلكوا.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ)، إلى آخره، هذا أمر للمسلمين أن يكونوا أنصاراً لله كما كان الحواريون، لكن لم يبين هنا هل كان المؤمنون الذين خوطبوا بهذه الآية أنصاراً لله أم لا؟
و ﷺ نعم، كانوا كذلك، وقد بين الله ذلك في سورة الحشر في قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الحشر: ٨].
كذلك قال عز وجل: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ [التوبة: ١٠٠].
وقال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح: ٢٩]، فقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) معناه: أنهم ينصرون الله ورسوله.
وقال تعالى: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: ٢٩].
فسماهم أنصاراً، وبين نصرتهم سواء كانوا من المهاجرين أو الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وقال الرازي: قال أصحاب عيسى: (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)، ولم يقل أصحاب محمد ذلك، فما هي الحكمة في ذلك؟
و ﷺ أن خطاب عيسى عليه السلام كان بطريق السؤال، فلابد من الجواب، فأجابوا بذلك، ولم يقولوا ذلك ابتداء.
وأما خطاب محمد ﷺ فهو بطريق الإلزام، فالجواب غير لازم، بل اللازم هو امتثال هذا الأمر وهو قوله تعالى: (كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ)، وامتثال ذلك يكون بالفعل، والقرآن أثبت أنهم قد نصروا الله، قال تعالى: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) إلى آخره.
إذاً: فأصحاب المسيح سئلوا سؤالاً لا جواب له إلا هذا ما داموا مؤمنين، ف
Q ( مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) والجواب: (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) وأما الصحابة فأمروا بأن يكونوا أنصار الله، فكانوا كذلك فعلاً وامتثالاً، ولم يحتاجوا إلى أن يردوا نفس الرد، ونختم الكلام بقول الشاعر: سيأخذ ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج وهذا قول لبعض الشعراء ختم به إحدى قصائده التي أشار فيها إلى أن جميع المؤمنين في كل زمان مطالبون أن يمتثلوا هذا الأمر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: ١٤].
فالشاعر يقول في القصيدة: وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم فأحرِ بهم أن يغرقوا حيث لحجوا لعل لهم في منطوي الغيب ثائراً سيسموا لكم والصبح في الليل مولج بمجر تضيق الأرض عن زفراته له زجل ينفي الوحوش وهزمج على حين لا عذرى لمعتذركم ولا لكمُ من حجة الله مخرجُ فيأخذ ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon