أمية النبي ﷺ من معجزاته
فقوله تعالى هنا: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ)) يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الأميون هم العرب كلهم من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب.
فالعرب وصفوا بأنهم أميون لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، وسمي الشخص أمياً نسبة إلى أمه يوم ولدته؛ لأنه يوم ولدته أمه لم يعرف القراءة ولا الكتابة وبقي على ذلك، هذا هو سبب تسمية من لم يعرف القراءة والكتابة بوصف الأمي.
قال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: ٧٨] ولقد وصف الله عز وجل نبينا ﷺ بالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٨]، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥].
ويمتن الله على المؤمنين بقوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا منهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: ١٦٤].
ووصف النبي ﷺ بأنه أمي ما هو إلا إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يخلطون بين الأمي وبين الإمام الأمي، نقول: قد يكون المرء عالماً ومجتهداً وإماماً في أعلى درجات العلم وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ؛ لأن القراءة والكتابة ما هما إلا من وسائل التعلم، بدليل أننا نرى كثيراً من العلماء الأفاضل الكرام الذين ارتقوا ذُرى العلم، وكانوا عميان لا يرون ولا يقرءون.
إن الأمية في حق النبي عليه الصلاة والسلام غير الأمية في حق غيره من البشر؛ فغيره من الناس لو كان أمياً فهو يتلقى من مصدر بشري، فيدخل احتمال الخطأ عليه، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فإنما كان العلم الذي آتاه الله علماً وهبياً؛ لأن النبوة لا تكتسب، إنما هي هبة من الرب سبحانه وتعالى، فهو علم وهبي من مصدر معصوم، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثم إن الله آتاه من المعجزات والآيات في قرآنه الكريم وفي سنته الشريفة تتقاصر دونها وتقهر أمامها كل قوى علماء الأرض قاطبة، سواء في علوم الدين أو الدنيا، فقد آتاه الله من العلم ما لم يؤت أحداً من العالمين، ولم يأمره سبحانه وتعالى بطلب الاستزادة من شيء غير الاستزادة من العلم، قال عز وجل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤].
إذاً: كون النبي عليه الصلاة والسلام أمياً لا يقرأ ولا يكتب فهذه معجزة له عليه الصلاة والسلام، لا كما نصف نحن الأميّ بأنه الشخص الجاهل، فالأميّ لا يشترط أن يكون جاهلاً، بل الأميّ من لا يعرف القراءة والكتابة لسبب من الأسباب، كأن يكون أعمى البصر لا يستطيع القراءة ولا الكتابة، أو كما كان الحال الغالب على العرب من عدم القراءة والكتابة، لكن نفس هؤلاء العرب كانوا يحفظون من الأشعار آلاف الأبيات، وقد كان حفظ السنة في القرون الأولى مبنياً على القدرات الخارقة للصحابة من الحفظ.
فهذا ابن عباس رضي الله عنهما وغيره كانوا يسمعون قصيدة من سبعين بيتاًًً مرة واحدة فيحفظها أحدهم ولا يخطئ فيها حرفاً، فهذه منة من الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بالذاكرة القوية، ثم انضم إلى حفظ الصدور حفظ السطور بالكتابة؛ وذلك لما كثر القتل في الصحابة والمجاهدين في سبيل الله، وخشي من اندراس العلم.
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٨] كان يمكن أن يشك فيه أحد لو كان يقرأ ويكتب من قبل، لكنهم كانوا يعرفون ذلك: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ﴾ [يونس: ١٦].
فلو كان يقرأ أو يكتب لقالوا: إنه أملي عليه هذا القرآن من طرف آخر، وإن كان هؤلاء الكفار لم يعجزهم هذا الادعاء الكاذب فقد ادعوا: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥].
قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣] فالعلم الذي أوتيه النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل إليه غيره من البشر على الإطلاق، وقد صرح النبي ﷺ بذلك في قوله: (إني أعلمكم بالله وأخشاكم له) فقوله: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ)) أي العرب.
((رَسُولًا مِنْهُمْ)) أي: من أنفسهم.
ووصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه منهم بعد وصفهم بالأميين يقوي القول بأن تفسير (رسولاً منهم) أي: أمياً مثلهم.
فإذا قيل: السياق هنا سياق امتنان بنعمة عظيمة أنعمها الله سبحانه وتعالى على الأميين، بل على البشرية كلها، فما وجه الامتنان في وصفه بالأمية؟ ف
ﷺ أن هذه الأمية دليل على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، ولموافقته ما تقدمت البشارة به في كتب الأنبياء قبله، لأن الرسول ﷺ وصف في الكتب السابقة بأنه النبي الأميّ، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ﴾ [الأعراف: ١٥٧].
إذاً: وصفه بهذه الصفة كانت إحدى علاماته، ووصفه بالأمية لا زال مكتوباً في التوراة والإنجيل، كما في قوله: (وأجعل كلامي في فمه).
أيضاً في وصفه بالأمية بقوله: ((رَسُولًا مِنْهُمْ)) بيان لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب لموافقتهم؛ لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبلهم، وأنه يقتبس منها، أو أنها تملى عليه.


الصفحة التالية
Icon