تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي)
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: ٩].
هذا الموضع يتعلق بتفسير آيات الأحكام، أحكام الأذان وأحكام يوم الجمعة وصلاة الجمعة، وقد سبق أن درسناه بالتفصيل في الفقه، لكن من أراد التفصيل فليرجع إلى كتب تفسير آيات الأحكام.
قوله: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) (من) هنا بمعنى: (في) كما في قول الله تبارك وتعالى: ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ﴾ [فاطر: ٤٠] أي: أروني ماذا خلقوا في الأرض.
وقيل: إن (من) في قوله: ((مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) تبعيضية.
لقد ربط الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى بين صلاة الجمعة وبين الحج حيث يقول: هذه الآية الكريمة وهذا السياق يشبه في مدلوله وصورته قوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: ٢٧ - ٢٨] وقوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: ١٩٨].
ففي كلٍ منهما نداء للصلاة، ففي الجمعة قال: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) وفي الحج قال: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)) كلاهما أذان وإعلان وأذان الحج فيه صلاة وسعي وذكر لله ثم انتشار وإفاضة، ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ وهذا مما يربط الجمعة بالحج في الشكل وإن اختلفا في الكيف.
وهذا أيضاً مما يجعل مباحث الجمعة لا تقل أهميةً عن مباحث الحج، وتتطلب عناية بها كالعناية به، ومن هنا فصل الشيخ عطية سالم الكلام في أحكام الجمعة، اقتداءً بشيخه الشنقيطي، فإنه في الجزء الخامس لما شرح تفسير سورة الحج توسع في أحكام الحج، وهو حوالي ثلاثمائة وخمس وخمسين صفحة كلها في فقه الحج، ما عدا مائة واثني عشر صفحة في أحكام صلاة الجمعة، فهو رابط بينهما لوجود وجه الشبه بين الحج وصلاة الجمعة.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) أي: عند جلوس الإمام على المنبر؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله ﷺ نداءٌ سِواه، كان إذا جلس على المنبر أذن بلال رضي الله تعالى عنه.
((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) ذكر الله الخطبة والصلاة؛ لأن الخطبة والصلاة هما المؤكدتان في ذلك.
((وَذَرُوا الْبَيْعَ)) أي: ذروا البيع في ذلك الوقت.
قال أبو مالك: كان قوم يجلسون في بقيع الزبير فيشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة يوم الجمعة ولا يقومون، فنزلت: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ)).
قوله: ((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)) أي: سعيكم للصلاة وترك البيع خير لكم مما نفعه يسير وربحه فائض.
((مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) أي: من الصلاة في يوم الجمعة.
((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)) لقد منع الله سبحانه وتعالى من البيع عند صلاة الجمعة، وحرمه في وقتها على من كان مخاطباً بفرضها، بخلاف من تسقط عنهم صلاة الجمعة كالمسافر والصبي والمرأة والمريض.
البيع يطلق على الشراء أيضاً فلذلك اكتفى الله سبحانه وتعالى بذكر أحدهما: ((وَذَرُوا الْبَيْعَ)) مثل قوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] أي: وتقيكم البرد؛ وخص البيع لأن أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، لأن المشتري لا بد له من بائع، فإذا سُد المنبع ومُنع البائع من أن يبيع، فالمشتري لن يجد أحداً يشتري منه.
((وَذَرُوا الْبَيْعَ)) هذا أمر بالترك وهو أقوى من النهي، أي: أقوى من أن يقال: (لا تبيعوا) وهو مثل قوله تعالى في الخمر: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: ٩٠] وهو أقوى من قوله: (لا تشربوه).
في هذه الآية أوضح دليل يُرد به على من يُلبس الشيطان عليهم بانشغالهم بأمر الرزق، وبما يزعمونه من أن العمل عبادة، مثلما يقول أحدهم: نحن في عبادة والعمل عبادة، فيضيعون الصلاة احتجاجاً بالرزق.
هذه الآية تأمر أمراً واضحاً بترك السعي للرزق إذا جاء وقت الصلاة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: ٩].
﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ أي: اتجروا واربحوا كما تشاءون، فمثلها أيضاً قوله تعالى في سورة النور: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ﴾ [النور: ٣٦ - ٣٧] إلى آخره، فهذا أيضاً مما يبطل الدعوى في الانشغال بالرزق عن الصلاة، فأشار الله سبحانه وتعالى إلى أن الانشغال بالصلاة هو أحد أسباب إدرار الزرق كما في سورة طه يقول تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: ١٣٢].