تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)
قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: ١٦] أي: اتقوا الله جهدكم ووسعكم.
قوله: ((وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) أي: افهموا هذه الأوامر واعملوا بها.
قوله: ((وَأَنفِقُوا)) أي: أموالكم التي ابتلاكم الله بها في مراضيه.
قوله: ((خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ)) أي: اقصدوا في الأموال والأولاد ما هو خير لكم.
فقوله: ((خيراً)) مفعول به، كقوله: ﴿انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ [النساء: ١٧١] وتقديره: يكن الإنفاق خيراً لكم، وقيل: أنفقوا أموالكم لتستنقذوا أنفسكم من عذاب الله.
والخير في هذا الموضع يشمل كل خير، ويدخل فيه المال بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: ٨] أي: لحب المال لشديد، وقوله: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ [البقرة: ١٨٠] أي: إن ترك مالاً.
فهذا يدل على أن المال لا يذم لذاته؛ لأن المال هو وسيلة لتحصيل كثير من الخيرات، حتى أطلق الله عليه الخير إذا كان من حلال، وأنفق فيما يرضي الله تبارك وتعالى.
قوله: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: بالعصمة من هذا الشح، فكل إنسان فيه شح، لكن من الناس من يخلى بينه وبين شح نفسه فينقاد له، ومنهم من يحميه الله من شح نفسه ويعصمه من شره.
قوله: ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: المنجحون الذين أدركوا النجاة والسعادة عند ربهم تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) معناه: اتقوا الله -أيها الناس- وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم، أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، فتتركوا الهجرة وأنتم للهجرة مستطيعون؛ لأن الله تعالى ذم من ترك الهجرة بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ﴾ [النساء: ٩٧] قال: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ [النساء: ٩٨] فهؤلاء معذورون؛ ولذلك قال سبحانه بعدها: ﴿فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ [النساء: ٩٩]، أما من استطاع فهو غير معذور في ترك الهجرة.
وقيل: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي: فيما تطوع به من نافلة صلاة أو صوم أو صدقة؛ فإنه لما نزل قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] اشتد ذلك على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفاً عنهم: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)).
ويؤخذ من هذه الآية أن المكره على المعصية غير مؤاخذ عليها؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها.
قوله: ((وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) أي: اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه، وقيل: أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله، وقيل: اقبلوا ما تسمعون، وعبر عنه بالسماع؛ لأنه فائدته.
يقول القرطبي: وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبد الملك بن مروان! يعني: أولها تأويلاً فاسداًً وقصرها فقط على الخليفة عبد الملك بن مروان.
فقال الحجاج: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) هي لـ عبد الملك بن مروان أمين الله وخليفته، ليس فيها مثنوية.
يعني: لا يشاركه فيها أحد! ثم قال الحجاج: والله! لو أمرت رجلاً أن يخرج من باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه! يقول القرطبي: وكذب في تأويلها، بل هي للنبي ﷺ أولاً ثم لأولي الأمر من بعده، ودليله قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩].
وقوله: ((وَأَنفِقُوا)) قيل: الزكاة، وقيل: النفقة في النفل، وقيل: النفقة في الجهاد، وقيل: نفقة الرجل في نفسه، يقول تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧]، فكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه، والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ما ينفق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له رجل: (عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على عيالك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به)، فبدأ بالنفس والأهل والولد، وجعل الصدقة بعد ذلك، وهو الأصل في الصدقة، يقول تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] أي: ما زاد وفضل عن النفقة الواجبة.