الاعتراف والتوبة والإيمان عند معاينة العذاب
قوله تعالى: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: ١١] أي: أقروا حيث لا ينفع الإقرار ولا الندم، فاعتراف الكفار وإيمانهم بعد فوات الأوان بالمعاينة لا ينفعهم، وهذا المعنى كررناه كثيراً، ولا نمل من تكراره؛ لأن التوبة أو الإيمان والإقرار والاعتراف بالحق بعد فوات أوانه لا ينفع الإنسان شيئاً، كأن يتوب عند الغرغرة؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فإذا فاجأه الموت فلا تنفعه التوبة عند الموت.
وكذلك في الدنيا إذا طلعت الشمس من المغرب يغلق باب التوبة، وذلك لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ [الأنعام: ١٥٨].
وكذلك عند نزول العذاب من الله سبحانه وتعالى لا ينفعهم الإقرار، كما قال تعالى عن فرعون: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٩٠] فبماذا أجيب؟ أجيب بقوله: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: ٩١].
إذاً: لا تنفع التوبة ولا الإقرار بالذنب عندما يصير الغيب شهادة، وعندما يرى المرء الملائكة أتت لقبض روحه، أو حينما يلقون في النار يوم القيامة: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ١٢]، فاليقين الذي ينفع هو اليقين في الدنيا في دار العمل، أما اليقين والإيمان في الآخرة عند نزول العذاب فهو يقين وإيمان رغم أنف الإنسان، ففيه نوع من الإكراه له، فلا يقبل الإيمان الذي يقع تحت الإكراه، قال الله: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦]، وإنما الإيمان واليقين الذي له قيمة هو الذي يقع هنا في دار التكليف في مجلس الامتحان، لكن هناك تظهر النتيجة فقط؛ لأنه ليس هناك عمل، ولذلك كانت أول صفات المؤمنين في القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣] فالإيمان بالغيب يتوصل إليه الإنسان عن طريق التفكر والتدبر في آيات الله وتحري الحق والبحث عنه والجهاد، قال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩]، هذا الإيمان الذي له قيمة، لكن بعد معاينة العذاب لا يفيد.


الصفحة التالية
Icon