تفسير قوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين)
قال تعالى: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٤].
قوله: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)) أي: كرره مرة بعد مرة.
قوله: ((يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا)) (خاسئاً) يعني: مبعداً، من قولك: خسأت الكلب، يعني: باعدته.
يقول القاسمي: (ثم ارجع البصر كرتين) أي: رجعتين أخريين؛ ابتغاء الخلل والفساد والعبث، تدبر وانظر وفكر: هل تجد عبثاً أو خللاً أو تفاوتاً في خلق السماوات؟ والمراد بالتثنية في قوله: ((كَرَّتَيْنِ)) التكرار.
قوله: ((يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ)) أي: يرجع إليك البصر.
قوله: ((خَاسِئًا)) يعني: مطروداً عن أن يصيب ويجد الخلل أو الفساد أو العبث في هذا المخلوق العظيم.
قوله: ((وَهُوَ حَسِيرٌ)) أي: منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه، فيصيبه هذا الكلل والتعب والإرهاق؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يرجع ويرى في خلق الله سبحانه وتعالى تفاوتاً أو خللاً أو فساداً أو عبثاً.
وقال الزجاج في تفسير قوله تعالى: ((وَهُوَ حَسِيرٌ)): قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللاً.
ومعنى كلام الزجاج: أن الذي ينظر ويتأمل ويتدبر ويبحث في هذه السماء بنية أن يعثر على خلل فسوف يعيا، ويكون حسيراً متعباً كالاً مرهقاًَ، ويرجع خاسئاً خائباً، فلن يجد على الإطلاق خللاً، ولن يرى في السماء خللاً.
يقول الزمخشري: نهاية كمال عالم الملك في خلق السماوات، لا ترى أحسن خلقاً وأحسن نظاماً وطباقاً منها، وأضاف خلق السماوات إلى الرحمن عز وجل؛ لأنها من أصول النعم الظاهرة، ومبادئ سائر النعم الدنيوية، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضاً، وحسن انتظامها وتناسبها، وإنما قال: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ))؛ لأن تكرار النظر وتجوال الفكر مما يفيد تحقق الحقائق، وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق لا يفيد إلا الخسوء والحسور تحقق الامتناع.
فالشخص الذي يريد أن يفتش عن الخلل في خلق السماوات، هل سيعود بتحقيق شيء من بغيته؟ لا يمكن أبداً أن يحقق شيئاً من ذلك.
وقال الله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: ٧]، وقال تبارك وتعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٨٨] تبارك وتعالى.
يقول الناصر في قول الله تبارك وتعالى: ((يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا)): وضع للظاهر موضع المضمر، لم يقل: ثم ارجعه مرتين، وإنما قال: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)).
ثم قال: وفيه من الفائدة: التنبيه على أن الذي يرجع خاسئاً حسيراً غير مدرك.
والنظر هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يُدرك شيء دل على أنه لا شيء.
إذاً: ما الذي يستعمل في النظر وفي الاطلاع والرؤية؟ العين، فلذلك قال: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٣ - ٤]، فالذي يرجع خاسئاً حسيراً غير مدرك الخلل هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يُدرك شيء دل على أنه لا يوجد خلل ولا فطور في خلق الله تبارك وتعالى.
وهذا الإتقان العظيم في خلق السماوات والأرض -كما قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [ق: ٦]- إنما هو في الدنيا فقط، أما يوم القيامة فلا شك أن السماء سوف تنفطر، كما قال الله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾ [الانفطار: ١]، وقال: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾ [الانشقاق: ١]، وقال: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ [الفرقان: ٢٥]، فالمقصود بهذا الإحكام والإتقان إنما هو في الحياة الدنيا.


الصفحة التالية
Icon