موقف العلماء من المخترعات والنظريات الحديثة
فضيلة الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله تعالى كان أقرب تلامذة الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى، وهو الذي أتم أضواء البيان بعد وفاة الشيخ رحمه الله؛ لأن الشيخ الشنقيطي رحمه الله كان آخر آية فسرها هي قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: ٢٢]، فلعلها بشرى في كونه من حزب الله المفلحين إن شاء الله تعالى.
وشيخ الإسلام ابن تيمية كان آخر ما قرأه من الآيات قبل موته: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: ٥٤ - ٥٥].
وعمر بن عبد العزيز آخر آية قرأها عند الاحتضار: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣] ثم قبض رحمه الله تعالى.
والشيخ محمد رشيد رضا آخر آية فسرها هي قوله تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: ١٠١].
والشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى ممن لحق بربه في عام الحزن، هذا العام الذي شهد موت كواكب أئمة المسلمين أمثال الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى.
يقول الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله: ظهرت تلك المخترعات الحديثة، ونادى أصحاب النظريات الجديدة، والناس ينقسمون إلى قسمين: قسم يبادر بالإنكار، وآخر يسارع بالتصديق، وقد يستدل كل من الفريقين بنصوص من القرآن والسنة، ولعل الأولى أن يقال: إن النظريات الحديثة قسمان: نظرية تتعارض مع صريح القرآن، فهذه مردودة بلا نزاع، كنظرية ثبوت الشمس مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ [يس: ٣٨]، وقال سبحانه: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠]، في هذه الحالة قطعاً لابد أن نرد هذه النظرية؛ لأنها قائمة على رأي بشري قاصر، ومتعارضة تعارضاً صريحاً مع كلام خالق السماوات والأرض: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: ١٤] سبحانه وتعالى.
ثم إذا بنفس النظرية تتطور بعد ذلك ويعلنون أن الشمس بكل الأجرام السماوية المحيطة بها -أي: المجموعة الشمسية- تَسْبَحُ إلى حيث شاء الله سبحانه وتعالى في الفضاء، وحركة الأفلاك السماوية شيء ملاحظ ومحسوس، وكلها تتحرك بحكمة وبحساب، قال تعالى: ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ [الحجر: ١٩]، فالشمس بالنسبة لما يدور حولها من الأجرام السماوية ثابتة والله أعلم، لكن نفس الشمس مع المجموعة الشمسية كلها تدور بقدرة الله سبحانه وتعالى.
وقول الله تبارك وتعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) هذه الآية من إعجاز القرآن الكريم، بل أوضح النبي ﷺ هذا المعنى في صورة أوضح وأشهر، وذلك عندما بين أن الشمس حينما تغيب تذهب وتسجد تحت عرش الرحمن تبارك وتعالى، ثم تستأذن في الشروق فيؤذن لها، إلى آخر الحديث المعروف.
على أي حال فأي شيء من النظريات العلمية يتعارض مع نص صحيح أو مقطوع به من آيات القرآن الكريم أو حديث نبوي واضح، وكان هذا التعارض صريحاً؛ ففي هذه الحالة لابد أن نرد هذه النظرية؛ لأنها صادرة عن علم بشري خاطئ، أما إذا كانت هذه النظرية قد وصلت إلى مرتبة الحقيقة ولا يمكن الطعن فيها، مثل: كروية الأرض، فهذه حقيقة ما ينبغي أبداً أن يأتي إنسان الآن ويدعي أن الأرض غير كروية؛ لأن كون الأرض كروية هذا شيء محسوس، ولماذا نستغرب كون الأرض كروية؟ فكل الأجسام كروية، فالقمر كروي، والشمس كروية، وقوله عز وجل: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)) قالوا: عدم التفاوت أقوى ما يكون في الشكل الكروي.
ثم يقول: ونظرية لا تتعارض مع نص القرآن ولم ينص القرآن عليها، وليس عندنا من وسائل العلم ما يؤيدها ولا ما يرفضها، فالأولى أن يكون موقفنا منها موقف التثبت، ولا نبادر بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً.
وذلك لأن القرآن الكريم ليس كتاب تكنولوجيا وإنما هو كتاب هداية، صحيح أتت بعض الإشارات تتضمن ما يسمى الآن بالإعجاز العلمي في القرآن، لكن هذا يصح الاستدلال به فيما وصل إلى مرتبة الحقيقة العلمية التي توافق ما جاء في القرآن، أما إذا كان هناك شيء ليس عندنا ما يرده ولا عندنا أيضاً ما يقبله، فهذه تترك للخبرة البشرية والعلم البشري، ولا ينبغي ربطها أبداً بالقرآن الكريم؛ لأن بعض الناس غلا في هذا الأمر غلواً مستقبحاً، حتى إن بعض الناس أراد أن يلصق نظرية داروين بالإسلام، فادعى في تفسيره أن نظرية داروين أشار إلى صحتها القرآن، وذلك في قول الله تبارك وتعالى في أول سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [النساء: ١] قال: هي هذه النفس الواحدة وقوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: ١].
وهذا من الإلحاد في آيات الله ومن تحريف كلام الله عن موضعه؛ لأن نظرية داروين نظرية فاشلة وخائبة ومزيفة، فلا يجوز أبداً أن يربط نصوص القرآن الكريم بنظريات تروح وتجيء وتخطئ وتصيب، وإنما الذي يجوز ربط القرآن به هو ما وصل إلى مرحلة الحقيقة العلمية.
إذاً: ينبغي أن نتثبت ولا نتهور بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً، ونأخذ ذلك من قصة الهدهد مع نبي الله سليمان لما جاء يخبره عن قوم سبأ، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٢ - ٢٣]، فلما أخبر الهدهد سليمان بذلك، ولم يكن سليمان عليه السلام يعلم عنهم شيئاً، فسليمان لم يكذب الخبر الذي ورد من الهدهد ولم يصدقه؛ لأنه لم يعلم عنهم شيئاً، مع أن الهدهد وصف حالهم وصفاً دقيقاً، لكن كان موقف سليمان عليه السلام هو موقف المتثبت؛ مع ما لديه من إمكانات الكشف والتحقيق من الريح والطير والجن، فقال للمخبر -وهو الهدهد-: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [النمل: ٢٧]، هذا هو النموذج الذي ينبغي أن يحتذى فيما لا يعلم الإنسان صدقه من كذبه، أن يتريث ويتثبت ولا يتهور في الجانب السلبي أو الإيجابي.
ثم يقول الشيخ رحمه الله: ونحن في هذه الآونة لسنا أشد أو أعظم إمكانيات من نبي الله سليمان عليه السلام آنذاك، وليس المخبرون عن مثل هذه النظريات أقل من الهدهد، فليكن موقفنا على الأقل موقف من سينظر أيصدق الخبر أم يظهر كذبه، والغرض من هذا التنبيه هو ألا نحمل لفظ القرآن فيما هو ليس فيه صريحاً فيه، ونحمّله ما لا يحتمله، ثم يظهر كذب النظرية فنجعل القرآن في معرض المقارنة مع النظريات الحديثة؛ لأن النظريات الحديثة يهدم بعضها بعضاً، فإذا ربطنا القرآن بالنظرية ثم ثبت بطلانها ففي هذه الحال نفتح باب فتنة على الناس، والخطأ منا نحن حينما نربط القرآن بهذه المتغيرات؛ لأن القرآن فوق ذلك كله، القرآن أعلى وأسمى من هذا كله، يقول الله تعالى: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢].
ويقول أيضاً في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٤]: المنصوص عليه هنا في هذه الآية هو إرجاع البصر كرتين، ولكن حقيقة النظر أنه أربع مرات، الأولى في قوله تعالى: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ))، والثانية في قوله: ((فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)) والثالثة والرابعة في قوله: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ))، وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد.
والحسير هو العيي الكليل العاجز المنقطع دون غاية، كما في قول الشاعر: من مد طرفاً إلى ما فوق غايته ارتد خسآن منه من الطرف قد حسرا قال القرطبي: يقال: قد حسر بصره يحسر حسوراً، أي: كل وانقطع نظره من طول مداه وما أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضاً.
قال الشاعر: نظرت إليها بالمحصب من منى فعاد إليّ الطرف وهو حسير


الصفحة التالية
Icon