تفسير قوله تعالى: (سنسمه على الخرطوم)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ [القلم: ١٦].
يعني: هو ارتكب كل هذه الجرائم فسوف نجازيه بأن نسمه على الخرطوم.
وهذا وعدٌ من الله تبارك وتعالى بغاية إذلاله؛ لأنه لما تناهى كبره وعجبه وزهوه وعتله وعتوه توعده الله تبارك وتعالى بنقيض ذلك، وهو غاية الإذلال، تقول العرب: وسمته بميسم السوء: يريدون أنه ألصق به من العار ما لا يفارقه.
قال جرير: لما وضعت على الفرزدق ميسمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل وقال الزمخشري: الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لتقدمه له، ولذلك جعل الأنف مكان العز والحمية.
فالحمية دائماً تنسب إلى الأنف، أو يقولون: أنفه في السماء إذا أرادوا أن يصفوه بالكبر، فهذه الالتفاته النفسية تنسب غالباً إلى الأنف.
واشتق منه الأنفة، وقالوا: الأنف الأنف.
وقالوا: حمي أنفه أي: تكبر، وفلان شامح العرنين، يعني: الأنف، وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه.
وهذا دعاء عليه بالذل، يعني: ذل حتى يلصق أنفه بالرغام وهو التراب.
فهنا عبر الله سبحانه وتعالى بالوسم على الخرطوم، والخرطوم هو الأنف، ففيه غاية الإذلال والإهانة؛ لأن السمة على الوجه شين وإهانة، فكيف به على أكرم موضع منه، ولقد وسم العباس أبعاره في وجوهها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكرموا الوجوه)، فوسمها في ذراعيها.
وفي لفظ (الخرطوم) استهانة به، فلم يقل: سنسمه على أنفه.
أي: نضع له علامة من العذاب على أنفه، وإنما قال: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾، فعبر عن أنفه بالخرطوم، وهذا أيضاً غاية الاستخفاف والاستهانة بهذا المتكبر الأثيم؛ لأن أصل الخرطوم للخنزير والفيل.
وقيل: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يتميز بها عن سائر الكفرة كما عادى رسول الله ﷺ عداوة بان بها عنهم.
يعني فإنه تمادى وطغى وتجبر وجاوز الحد، حتى صار متميزاً بأكبر قدر من عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والجزاء من جنس العمل، فسوف نعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يتميز بها عن سائر الكفرة.
قيل: عني بالآية الأخنس بن شريق.
قال ابن جرير: وأصله من ثفيف وأجداده في بني زهرة، أي لأنه التحق بهم حتى كان منهم في الجاهلية، ولذا سمي زنيماً للصوقه بالقوم وليس منهم.
وقيل: هو الوليد بن المغيرة؛ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده.
وقال ابن عباس: (سنسمه) سنخطمه بالسيف.
وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف فلم يزل مخطوماً إلى أن مات.
وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها، يقال: وسمته وسماً وسمة: إذا أثخنت فيه بسمة وكي، وقد قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦]، فهذه علامة ظاهرة، وقال تعالى ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: ١٠٢]، وهذه علامة أخرى ظاهرة، فأفادت هذه الآية علامة ثالثة.
أي: فالوجوه تكون مسودة، والعيون زرقاء بدل البياض، والأنف ذكرت علامتها هنا في هذه الآية، ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ فهذه علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: ٤١].
وقال أبو العالية ومجاهد: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ أي: على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بذلك، والخرطوم: الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم ساداتهم.
وقال الطبري: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ سنبين أمره تبياناً واضحاً حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم، كما لا تخفى السمة على الخراطيم.
وقيل: سنلحق به عاراً وشدة حتى يكون كمن وسم على أنفه.
قال القتيبي: تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسمته، إذا أُلحق به عار وبقي ولم يزل عنه، أي: ألصق به عار لا يفارقه.
كما أن السمة لا يمحى أثرها، قال جرير: لما وضعت على الفرزدق مسيمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل أراد به الهجاء.
والبعيث هو كداك بن بشر كان يهجو جريراً.
ويقول القتيبي: وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة، ولا نعلم أن الله سبحانه وتعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه.
كما هو في هذه الآيات، وفي سورة أخرى هي سورة المدثر: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ [المدثر: ١١ - ١٦] إلى آخر الآيات.
يقول: ولا نعلم أن الله سبحانه وتعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم.
وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار.
وهناك قول آخر نذكره من باب الإحاطة بما قيل، وهو قول النضر بن شميل ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ قال: سنحده على شرب الخمر، والخرطوم الخمر، وجمعه خراطيم.
قال الشاعر: تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شراب الخراطيم يعني: الخمر.
وقال الراجز: صهباء خرطوماً عقاراً قرقفا.
وكلها أسماء للخمر.
ومما يذكر الوليد كان يأنف من شرب الخمر في الجاهلية، فالله أعلم بصحة ذلك.
قال ابن العربي: كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديماً عند الناس، حتى إنه روي أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا عنه بالضرب وتحميم الوجه، -أي: تسويده بالفحم- وهذا وضع باطل، أي: استبدال لشرع الله سبحانه وتعالى بحكم باطل؛ لأن الحكم الشرعي هو الرجم كما نعلم.
يقول ابن العربي: ومن الوسم الصحيح في الوجه ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور.
فبعض العلماء قالوا: من ثبت عليه أنه شهد شهادة زور يعاقب بأن يسود وجهه.
فهي علامة على قبح المعصية، وتهديدٌ لمن يتعاطاها ولغيره ممن يرجى تجنبه لما يرى من عقوبة شاهد الزور.
فقد كان عزيزاً بقول الحق وقد صار مهيناً بالمعصية، وأعظم الإهانة إهانة الوجه، ولذلك كان في طاعة الله سبباً لخيرة الأبد والتحريم له على النار.
أي: أن شاهد الزور كما أنه استبدل القول بالحق وشهد شهادة زور حتى ضيع حق الناس أو تسبب في ظلمهم، فيعاقب بتسويد وجهه بين الناس، إهانة له، وقد كان يريد العزة بالكذب والزور.
كذلك من أذل وجهه في سبيل الله، أو أذل وجهه لله بالسجود لله تبارك وتعالى الذي يترتب عليه وجود هذه العلامة في الوجه، فالاستهانة بهذا الوجه وإذلاله لله بأن تسجد لله سبحانه وتعالى في الأرض وفي التراب وفي موطئ الأقدام، تواضع تثاب عليه بأن يكون سبباًَ لخيرة الأبد وأنه يحرمك على النار، (فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم آثر السجود)، كما ثبت في الحديث الصحيح.


الصفحة التالية
Icon