تفسير القاسمي لقوله تعالى: (ولما برزوا لجالوت وجنوده)
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَلَمَّا بَرَزُوا)) أي: ظهروا ((لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)) أي: صبه علينا، حتى نثبت لقتالهم فلا نجزع للجراحات، وإنما طلبوه أولاً؛ لأنه ملاك الأمر: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) أي: في ميدان الحرب، فلا نهرب منه ((وَانْصُرْنَا)) أي: لأننا مؤمنون بك، ((عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) أي: بك، وهم: جالوت وجنوده، وهذه الآية تدل على أن من حَزَبَهُ أمرٌ فإنه ينبغي له سؤال المعونة والتوفيق من الله والانقطاع إليه تبارك وتعالى.
ونلاحظ في سياق هذه الآيات وصف طالوت وجنوده بأنهم معسكر الإيمان، ووصف جالوت وجنوده بأنهم معسكر الكفر؛ ولذلك قال هنا: ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٠]، وجالوت وجنوده هم العمالقة الفلسطينيون الذين كانوا كافرين في ذلك الوقت، فانظر كيف يجعل القرآن مقياس الولاء والبراء هو الإيمان أو الكفر، ليست الجنسية أو الوطنية أو القومية، فتجد هنا أن القرآن يربينا على الولاء للمؤمنين أياً كانوا، وعلى شريعة أي نبي، ما داموا تابعين له على الإسلام، فهؤلاء الذين كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام كانوا مسلمين موحدين، أما جالوت وجنوده مع أنهم كانوا فلسطينيين فقد كانوا كافرين، ولا شك أن الفلسطينيين مسلمون اليوم، أما اليهود فهم أخبث أعداء الله سبحانه وتعالى، وأكفر خلق الله، فينبغي أن يدور الإنسان مع القرآن حيث دار، فالولاء والبراء على أساس الإيمان والكفر، لا على أساس الانتماء للوطن.
قال تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٥١] (فهزموهم) أي: هؤلاء القليلون هزموا أولئك الكثيرين (بإذن الله) أي: بنصره، إذ شجع القليلين وجبن الكثيرين (وقتل داود) وكان داود في جيش طالوت (جالوت) الذي كان رأس الأقوياء، (وآتاه الله الملك) أي: أعطى الله داود ملك بني إسرائيل (والحكمة) أي: الفهم والنبوة (وعلمه مما يشاء) من صناعة الدروع وغيرها.
((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ)) الذين هم أهل الشر (ببعض) من أهل الخير، أي: بغلبة الكفار، وظهور الشرك والمعاصي كما قال تعالى: ﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [الحج: ٤٠] ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥١] أي: مَنَّ عليهم بالدفع، فالله سبحانه يدفع عن الضعفاء فساد الأقوياء بالسيف.
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٢] أي: تلك المذكورات من إماتة الألوف وإحيائهم وتمليك طالوت وإتيان التابوت، وانهزام جالوت، وقتل داود إياه وتملكه؛ آيات الله؛ إذ هي أخباره بالمغيبات، وتدل على كمال قدرته سبحانه وحكمته.
((نَتْلُوهَا عَلَيْكَ)) أي: ينزل عليك جبريل بها ((بِالْحَقِّ)) أي: اليقين الذي لا يرتاب فيه ((وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)) بما دلّت عليه هذه الآيات من علمك بها من غير مُعلِّم من البشر، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر.
وفي هذه القصص معتبر لهذه الأمة في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة، كما أن فيها تسلية للرسول ﷺ من الكفار والمنافقين، كأنه يقال له: لقد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخلاف عليهم والرد لقولهم، فلا يعظمنَّ عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالفك؛ لأنك مثلهم، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة، ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والطوع لا على سبيل الإكراه، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم، والوبال في ذلك يرجع عليهم.
((وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)) هي كالتنبيه على ذلك، فستجري عليك السنة التي جرت على إخوانك السابقين من المرسلين.


الصفحة التالية
Icon