تفسير قوله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ولن نشرك بربنا أحداً)
نشرع في تفسير السورة الثانية والسبعين من سور القرآن الكريم، وهي سورة الجن.
قال المهايمي: سميت بذلك لاشتمالها على تفاصيل أقوالهم في تحسين الإيمان وتقبيح الكفر، مع كون أقوالهم أشد تأثيراً في قلوب العامة؛ لتعظيمهم إياهم.
يعني أن عامة الإنس يعظمون الجن ويتأثرون بكلامهم بشدة.
يقول عز وجل: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن: ١ - ٢].
قوله تعالى: ((قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)) يعني: استمع لهذا القرآن الحكيم نفر من الجن، والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط، كما في المجمل.
قال القاضي: وفي الآية دلالة على أنه ﷺ ما رآهم ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها، فأخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا ما يؤخذ من ظاهر ألفاظ الآية: ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ)).
((فقالوا)) يعني: لما رجعوا إلى قومهم قالوا: ((إنا سمعنا قرآناً)).
قال المهايمي: أي: كتاباً جامعاً للحقائق الإلهية والكونية، والأحكام والمواعظ، وجميع ما يحتاج إليه في أمر الدارين.
قوله: ((عجبا)) أي: غريباً لا تناسبه عبارة الخلق، ولا يدخل تحت قدرتهم.
فهذا القرآن العظيم الكريم غريب، بمعنى: أنه لا يمكن أن يصدر عن بشر، أو أن يدخل تحت قدرة المخلوقين، بل لابد أن يكون كلام الله سبحانه وتعالى، فانظر إلى أول انطباع الجن حينما سمعوا آيات من القرآن الكريم، قالوا: ((إنا سمعنا قرآناً عجباً))! يقول تبارك وتعالى: ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾، أي: إلى الحق وسبيل الصواب.
((فآمنا به)) أي: فآمنا به فوراً.
((ولن نشرك بربنا أحدا)) أي: من خلقه في العبادة معه تبارك وتعالى.
فهذا هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فقوله: ((فآمنا به)) فيه إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى، أي: فآمنا به وحده.
وقوله: ((ولن نشرك بربنا أحدا)) هذا نفي للأنداد والشركاء، وإبطال عبادة من عدا الله تبارك وتعالى.
وهذا المقام شبيه بقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٢٩ - ٣١].
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (انطلق رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء) يعني: أن السماء حفظت من الشياطين؛ لأن الجن الشياطين من قبل كان يقف بعضهم فوق بعض حتى يسترقوا السمع، وكانوا يلتقطون الكلمة مما تتحدث به الملائكة مما أوحاه الله سبحانه وتعالى وتكلم به، ثم يضيفون إليها تسعة وتسعين كذبة، ثم ينشرونها على السحرة والمنجمين والكهان.
فحدثت إرهاصات بين يدي بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوادث تلفت النظر، وتنبئ عن أن هناك أمراً خطيراً سيحصل بعد ذلك، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى.