تفسير قوله تعالى: (وثيابك فطهر)
قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: ٤].
اختلف في المقصود من قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾؟ فالظاهر هو الطهارة، أي: تطهير الثياب بالماء من الأنجاس؛ لأن الماء هو الأصل في التطهير.
قال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون؛ فأمره الله أن يتطهر ويطهر ثيابه.
وقيل: هذا أمر بتطهير القلب مما يستقذر من الآثام.
قال قتادة: العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دنس الثياب، أما إذا وفّى فإن العرب تسميه: مطهر الثياب.
وعن ابن عباس: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، أي: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم أنشد لـ غيلان بن سلمة الثقفي قوله: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع ففي الوجه الأول بقاء لفظي الثياب والتطهير على حقيقتهما.
أما الثاني ففيه نوع تجوز، بأن يكون المقصود بذلك طهر القلب مما يستقذر من الآثام.
الوجه الثالث: حمل الثياب على حقيقتها، والتطهير على مجازه، وهو التقصير؛ لأن العرب كانوا يطيلون ثيابهم، ويجرون أذيالهم خيلاء وكبراً، فأمر بمخالفتهم.
ووجه رابع: حمل الثياب على الجسد أو النفس كناية، كما قال عنترة: (فشققت بالرمح الأصم ثيابه) يعني: نفسه، ولذا قال: ليس الكريم على القنا بمحرم واستصوب ابن الأثير في المثل السائر الوجه الأول، قال في الفصل الثالث من فصول مقدماته: اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كقوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: ٤]، فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس، ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب لا الملبوس، وهذا لابد له من دليل؛ لأنه عدول عن ظاهر اللفظ، ثم قال: المعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف، والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف، إذ باب التأويل غير محصور، والعلماء متفاوتون في هذا فإنه قد يأخذ بعضهم وجهاً ضعيفاً من التأويل فيكسوه بعبارته قوة تميزه عن غيره من الوجوه القوية؛ فإن السيف بضاربه.
يعني: قد يكون لعالم وجه من الفصاحة والبلاغة حتى إنه لفصاحته وبراعته يستطيع أن ينتحي منحىً مرجوحاً عن طريق تأويل النص، ومع قوة عبارته وسحر البيان يقوي هذا القول الضعيف، وكما يقال: إن السيف بضاربه، يعني: أن السيف يقتل، لكن ليس السيف وحده هو الذي يؤثر، بل لابد له من ضارب قوي، ولذلك استشهد بعد قوله: (فإن السيف بضاربه) بشعر أبي الطيب المتنبي في قصيدة مطلعها: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني قال: إن السيوف مع الذين قلوبهم كقلوبهن إذا التقى الجمعان تلقى الحسام على جراءة حده مثل الجبان بكف كل جبان يقول المتنبي: إن السيوف مع الذين قلوبهم كقلوبهن إذا التقى الجمعان يعني: قد توجد السيوف الحادة القوية في أيدي أناس قلوبهم مثل قلوب النساء جبناً وهلعاً وخوفاً.
تلقى الحسام على جراءة حده، أي: مع أن السيف محدد بتار في حد ذاته.
تلقى الحسام على جراءة حده مثل الجبان بكف كل جبان فالسيف يكون جباناً ما دام في كف إنسان جبان، فالسيف بضاربه وليس فقط بحده، فإنه لا يؤثر إلا إذا كان الذي يحمله يضرب ضربةً قويةً.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: اختلف المفسرون في المراد من كل من لفظتي (الثياب) و (فطهر) هل دلا على الحقيقة، ويكون المراد طهارة الثوب من النجاسات أم هما على المجاز؟ فعلى سبيل المجاز يكون المراد بالثوب البدن، والطهارة عن المعنويات من معاصي وآثام ونحوها.
وذكر ابن جرير وغيره نحواً من خمسة أقوال: الأول: عن ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، أن معناه: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، لا تلبس ثيابك على معصية ولا على غدرة، واستشهد بقول غيلان: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع وقول آخر: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل فاستعمل اللفظين في الكناية، وقد يستدل له بقوله: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ٢].
وورد عن ابن عباس: لا تلبس ثيابك من كسب غير طيب، يعني: البس ثيابك من المال الحلال، فاستعمل الثياب في الحقيقة والتطهير في الكناية.
وعن مجاهد: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أي: وعملك فأصلح، فاستعملهما معاً في الكناية عن العمل الصالح.
وعن محمد بن سيرين وابن زيد على حقيقتهما، يعني: فطهر ثيابك من النجاسة.
ثم قال ابن جرير: والذي قاله ابن سيرين وابن زيد أظهر في ذلك.
وقول ابن عباس وعكرمة قول عليه أكثر السلف، والله تعالى أعلم بمراده.
ويترجح قول ابن سيرين أن المراد طهارة الثوب من النجاسة، بالقرينة في الآية فإنها اشتملت على أمرين: الأول: طهارة الثوب، ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾.
الثاني: هجر الرجز، ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: ٥]، ومن معاني الرجز المعاصي، فيكون حمل طهارة الثوب على حقيقته والرجز على حقيقته أولى، إن المعنى: طهر قلبك من الآثام والمعاصي، لوقع هنا تكرار؛ لأن قوله: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ معناه: اهجر المعاصي على أحد التفاسير، فيكون هذا تكراراً، والتأسيس أولى من التأكيد.
فيترجح بذلك أن المراد بقوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ الطهارة بالماء من الأنجاس، فيكون المراد الثياب على حقيقتها.
أما التطهير من الذنوب فأشار له قوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: ٥] فيكون تأسيساً.
وهذه الآية بقسميها جاء نظيرها بأصرح من ذلك في قوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾ [الأنفال: ١١].
ومثله أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، جمع بين الطهارتين: تطهير الباطن والظاهر.
ولذلك جعل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هذه الآية: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ دليلاً على وجوب الطهارة للصلاة.