تفسير قوله تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)
يقول الله: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦].
((وفي ذلك)) أي: في ذلك النعيم المنوه به وما تلاه.
((فليتنافس المتنافسون)) أي: فليرغب الراغبون بالإقبال على طاعة الله تعالى.
قال ابن جرير: التنافس أن ينفس الرجل على الرجل بالشيء يكون له، ويتمنى أن يكون له دونه، وهو مأخوذ من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتبتغيه، وكأن معناه في ذلك: فليجدّ الناس فيه وإليه، وليستبقوا في طلبه ولتحرص عليه نفوسهم.
قال الرازي: إن مبالغته تعالى بالترغيب فيه تدل على علو شأنه.
يعني: كون الله سبحانه وتعالى هو الذي يحرضنا على التنافس في هذا النعيم، فهذه أعظم دليل على علو شأن هذا النعيم.
يقول: وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم، لا في النعيم الذي هو سريع الفناء.
فالناس إنما يتنافسون في الدنيا، والتنافس في الدنيا والتحاسد عليها يورث البغضاء؛ لأنها ضيقة، والناس تتحاسد على الشيء الذي يكون محدوداً؛ لكن الجنة واسعة جداً وأدنى أهل الجنة منزلة له مثل الكرة الأرضية مرتين، فالتنافس لا يكون فيما هو مكدر؛ لأن الإنسان الذي يحسد في الدنيا إما أن يحسد مؤمناً أو يحسد كافراً، فإذا كان يحسد كافراً فإن نهايته الخلود في الجحيم إلى الأبد، فعلام يحسد هذا الشخص الذي نهايته الخلود في الجحيم؟! وإذا كان يحسد مؤمناً على هذا النعيم الذي أوتيه فما هو هذا النعيم بالنسبة لنعيم أهل الجنة، فالمؤمن صائر إلى الجنة والكافر صائر إلى النار، فلا ينبغي أن يحسد، والناس حينما يتنافسون على الشيء الضيق تحصل عداوة، كأن تكون المنافسة على الأموال أو المناصب والانتخابات؛ فتجد الأحقاد والتخاصم، لكن التنافس ينبغي أن يكون في شيء مستحق، بأن نتنافس فيما ندبنا سبحانه وتعالى للتنافس فيه، ففي الشرع هناك تنافس مأمور به، وهناك تنافس منهي عنه، أما المأمور به فهو في هذه الآية: ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) وفي قوله تعالى: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ [الصافات: ٦١].
أما التنافس المنهي عنه ففي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تنافسوا) يعني: في الدنيا؛ ولذلك قالوا: من ينافسك في الدنيا فادفعها في نحره.
أي: لا تنافس في الدنيا، وإنما التنافس الذي ينبغي أن يكون في ابتغاء رضوان الله تبارك وتعالى، وهو الذي قيل فيه: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: ١٣٣] وقيل فيه: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات: ٥٠] وقيل فيه: ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [المؤمنون: ٦١] فالمسابقة والمنافسة إنما تكون في أعمال الآخرة؛ لأن نعيمها عظيم كبير دائم، أما نعيم في الدنيا فهو نعيم مكدر سريع الفناء، إن بقيت أنت له لم يبق لك، وإن بقي لك لم تبق، وكل ما له نهاية فهو قليل.


الصفحة التالية
Icon