كلام ابن القيم في معنى قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون)
قال ابن القيم في بدائع الفوائد: في هذه الآية جمع لهم سبحانه وتعالى بين العذابين: عذاب الحجاب وعذاب النار، فألم الحجاب يجعل في قلوبهم وأرواحهم ألماً نفسانياً، تتألم وتتعذب به قلوبهم وأرواحهم، نظير ما تفعله النار في أجسادهم، كحال من حيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا وأخذ بأشد العذاب.
يعني: جمع له هذان الأمران، فرق إلى الأبد بينه وبين أحب إنسان إليه في الدنيا، بالإضافة إلى ذلك عذب أشد العذاب، فجسمه في عذاب، وقلبه وروحه في عذاب، والعياذ بالله.
يقول: فإن أخطر عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه، وهي ممنوعة من الوصول إليه، فكيف إن حصل لها مع غياب المحجوب عنها وطول احتجابه بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها؟! ولذلك فـ ابن القيم يريد أن يبين أن هذا الألم الذي يقع على القلوب والأرواح ألم نفسي أشد بكثير جداً مما يقع على الأبدان، ويزداد العذاب شدة عندما يتوارى هذا المحبوب ويطول احتجابه عنها.
يقول: فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه، فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه وتعالى عنها يوم لقائه من الألم والحسرة لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب.
يعني: لو أن الإنسان أعمل فكره وأخذ يتأمل كيف تكون حسرته إذا كان من المحجوبين عن الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم، لاتقى أسباب هذا الاحتجاب؛ حتى لا يعذب هذا العذاب.
ثم يقول: وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة منتهى حسنها إلى ما يعلم -يعني إلى الموت-.
فالرجل العاشق مثلاً لامرأة في غاية الجمال نهايتها الموت.
ناهيك عن الأمور الأخرى التي هي دون الموت.
يقول: وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة منتهى حسنها إلى ما يعلم، كيف يصيبهم من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره، ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة.
يعني: من فراق ساعة، فالبين هو الافتراق والابتعاد، أي: كل ما حصل هو فراق ساعة من الزمان، فهو يتألم ألماً شديداً، كما يقول الشاعر يرثي أخاه لأمه: وكنت أرى كالموت من بين ليلة فكيف ببين كان ميعاده الحشر.
أقول لنفسي في الخلاء ألومها لك الويل ما هذا التذلل والصبر.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وإنما يتبين الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له، وما فطرت عليه، وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه.
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له، فخلق العين للإبصار، والأذن للسمع، والأنف للشم، واللسان للنطق والذوق، واليد للبطش، والرجل للمشي، والروح لمعرفته ومحبته وللابتهاج بقربه والتنعم بذكره، وجعل هذا كمالها وغايتها، فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالاً من العين والأذن واللسان واليد والرجل التي تعطلت عما خلقت له وحيل بينها وبينه، بل لا نسبه لألم هذه الروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة ألبتة، بل ألمها أشد الألم، وهو من جنس ألمها إذا فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها، وحيل بينها وبينه، وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه.
والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها، الذي لا تقر عينها إلا بقربه والأنس به، والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه.
يعني: الإنسان إذا عمر قلبه بمحبة الله سبحانه والأنس به ومعرفته، والعكوف على الشوق إليه، يعيش في الدنيا كأن في صدره جنة، ويرى من النعيم ما لا يوصف، كما قال العلماء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٣ - ١٤]: فهذه عامة لا ينبغي تخصيصها بالنعيم في البرزخ ولا بالنعيم في الجنة، بل هي في الدور الثلاثة: في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الجنة.
ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: ما يصنع أعدائي بي، جنتي في صدري، فأينما رحت فهي معي.
يقصد جنة العلم ومحبة الله عز وجل ومعرفته.
وقال بعض الصالحين: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة النعيم لجالدونا عليه بالسيوف.
أي: لو ذاق الملوك وأبناء الملوك النعيم الذي نتمتع به في قلوبنا من ذكر الله ومعرفته والأنس به ومحبته عز وجل لجالدونا عليه بالسيوف، لكنهم لا يعلمون؛ لأنهم يتلهون بنعيم الدنيا ويرغبون عن ذلك النعيم الحقيقي.
فطريق السعادة أن تستقيم على مراد الله، كما قال بعض العلماء: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهي جنة الرضا عن الله سبحانه وتعالى ومحبته.
والإنسان يشعر بهذا إذا ذاقه، أما إن كان مجرد خبر فإنه لا يوقن به كما لو ذاقه، كما يقول الصوفية: من ذاق عرف ومن حرم انحرف.
ثم يقول: والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها، الذي لا تقر عينها إلا بقربه والأنس به، والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب.
يعني: أعظم نعيم في الدنيا هو أن يعمر القلب بمحبة الله، وأعظم نعيم في الآخرة إذا قوبل المحبوب أن يرفع الحجب التي كانت في الدنيا بينه وبينه، كما قال النبي عليه السلام: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ففي الآخرة يخلق المؤمن ويخلق أهل الجنة خلقاً بحيث يتحملون رؤية الله تبارك وتعالى، أما في الدنيا فلا يمكن لأحد أن يرى الله: ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ [الأعراف: ١٤٣] هذا الجبل الضخم القوي لم يتحمل فما قوة موسى عليه السلام بالنسبة للجبل؟! لما تجلى الله سبحانه وتعالى للجبل اندك تماماً، فأراد الله أن يبين لموسى أنه بخلقته هذه في الدنيا لا يستطيع رؤيته سبحانه وتعالى، وأما في الآخرة فيخلقون خلقاً جديداً بحيث يطيقون رؤية الله عز وجل، فالله لا يرى بهذه العين الفانية، وإنما يرى بخلق آخر يخلقه الله في جنة الرضوان، وحينئذ يكون أعظم نعيم في حقهم، بحيث إذا نعموا به يتلهون وينسون سائر ما في الجنة من نعيم، فرؤية الله سبحانه وتعالى في اليوم المهيب ورؤية وجهه الكريم وسماع كلامه هو أعظم نعيم على الإطلاق.
وفي حديث الرؤية يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فو الله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه) فبعداً وسحقاً لأولئك الكفرة الذين يعيرون المسلمين بأن دينهم يدعوهم إلى الجنة لينالوا فيها المتاع الحسي من الحور العين والأكل والشراب والفاكهة واللحم، وأن نبيهم يغريهم بالشهوات الجسدية، وهذا كله نابع عن جهلهم وحماقتهم وظلمة قلوبهم بالكفر، وهو ناتج عن غلوهم في تحريم الطيبات، فهم ينظرون إلى متع الحس على أنها نجس وخبث، حتى إن القذارة عندهم شيء طيب، والنظافة شيء خبيث ينفرون منه، فانعكس هذا على العقائد عندهم، فهم ليس عندهم شيء اسمه الجنة والنار بالتفاصيل التي نعرفها نحن، والتي امتن الله بها على هذه الأمة المحمدية المصطفاة، كما في كتابها القرآن الكريم وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام، أما هؤلاء الضلال فأقصى شئء عندهم هو الدخول في الملكوت.
ما هو الملكوت؟ لا يعرفون عنه شيئاً، ونحن امتن الله علينا بالقرآن وبالسنة فجاءت لنا بالتفاصيل لهذه الحياة الغيبية، حتى إننا لنعلم أكل أهل الجنة وملابس أهل الجنة وصفة الجنة وأشجارها وثمارها إلخ، كل هذا كي يكون محرراً وقائداً للمؤمنين إلى السعي لنيل هذا النعيم.
ثم لماذا ينسى النعيم الحسي؟ أليس الإنسان مركباً من روح وجسد؟ والروح تتنعم والجسد أيضاً يتنعم، فما الذي يستغربونه من هذا الفضل الرباني الإلهي؟ أيستبعدون أن ينعم الله الروح والجسد؟ ما الذي يستغربه هؤلاء الحمقى ويعيرون به المسلمين ويقولون: إن دينكم يغريكم بالشهوات؟ ثم ما جريمته إن كانت هذه خلقة الإنسان وهذه فطرة الإنسان؟ ومع ذلك فإن أعظم نعيم الجنة في الحقيقة هو النعيم الروحي، وليس الحسي، بدليل الأحاديث التي دلت على أن أهل الجنة إذا تجلى لهم الله سبحانه وتعالى ورأوه عز وجل فإنهم يتلهون عن كل ما في الجنة من ملذات، فينسون الحور العين وغيرها من الملذات، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه).
والله سبحانه يقول: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢] فرضوان الله أكبر من نعيم الجنة الحسي وملذاتها، وقد عرفنا أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما نلهم النفس، والإنسان إذا نام يبقى يتنفس، فكذلك أهل الجنة يلهمون التسبيح؛ لأنهم في دار ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء، فلذلك لا يتعبدون بالتسبيح، كما هو الحال في الدنيا وإنما التسبيح يأتي بصورة لا إرادية.
ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وكما جمع الله سبحانه وتعالى لأعدائه بين هذين العذابين، وهما ألم الحجاب وألم العذاب.
وهما في قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ﴾ [المطففين: ١٥ - ١٦] فألم الحجاب أن يتحسر أهل النار حينما يكونون من المحجوبين عن الله، ولا أمل عندهم أن يروا الله سبحانه وتعالى، فاجتمع لهم ألم الحجاب وألم العذاب أي: عذاب النار.
يقول: فكما جمع الله سبحانه وتعالى لأعدائه بين هذين العذابين وهما: ألم الحجاب وألم العذاب، جمع لمحبيه بين نوعي النعيم: نعيم الخلد والنظر، ونعيم الأكل والشرب والتمتع بما في الجنة.
جمع الله لأهل الجنة