تفسير قوله تعالى: (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود)
قال تبارك وتعالى: ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ [البروج: ٧] يعني: حضور يشاهدون احتراق الأجساد الحية وما تفعل بها النيران، لا يرقون لهم؛ وذلك لقسوة قلوبهم.
يقول عز وجل: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج: ٨] أي: وما أنكروا منهم ولا كان لهم ذنب إلا الإيمان بالله وحده! قال الراغب: نقمت من الشيء ونقمته إذا أنكرته، إما باللسان وإما بالعقوبة ومنه الانتقام.
قوله: (الْعَزِيزِ) أي: الغالب على أعدائه بالقهر والانتقام.
قوله: (الْحَمِيدِ) أي: المحمود على إنعامه وإحسانه.
يقول الحافظ ابن كثير: قوله تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ﴾ [البروج: ٤] أي: لعن أصحاب الأخدود، وجمعه أخاديد، وهي الحفر في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله عز وجل، فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فأبوا عليهم؛ فحفروا لهم في الأرض أخدوداً وأججوا فيه ناراً، وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها، ولهذا قال تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ [البروج: ٤ - ٧] أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ أي: وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجانبه، المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به فهو العزيز الحميد، وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس.
قال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البروج: ٩]، من تمام الصفة أنه المالك لجميع السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما.
قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي: لا يغيب عنه شيء في جميع السماوات والأرض ولا تخفى عليه خافية.
قال القاسمي: أي على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجرة أصحاب الأخدود وغيرهم شاهد شهوداً لا يخفى عليه منهم مثقال ذرة، وهو مجازيهم عليه.
وفي توصيفه تعالى بما ذكر من النعوت الحسنى إشعار بمقام إيمانهم، فإن كونه تعالى قاهراً ومنعماً، له ذلك الملك الباهر، وهو عليم بأفعال عبيده؛ مما يوجب أن يخشاه من عرف المصائب.
وفي الآية نوع من البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهو معروف في كتب المعاني، وهناك بيت شعر مشهور فيه تأكيد للمدح بما يشبه الذم، يقول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وقد تمدح شخصاً فتقول: لا عيب فيه إلا أنه سيموت، فهذا تأكيد المدح بما يشبه الذم، فالشاعر يقول: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم قد يتوقع أن سيوفهم قصيرة، أو أن سيوفهم من خشب، أو أي شيء فيه ذم، لكن قال: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب أي: أن كثرة الخدش في سيوفهم هو من كثرة ما يقاتلون الأعداء ويبارزون في القتال.
قوله: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ) يعني: ما أمسكوا عليهم ذنباً إلا أنهم يعمرون المساجد بالعبادة، فهذا تأكيد للمدح بما يشبه الذم، لكن هو في هذه الآية ليس بذم، بل هذا أعظم ما يمدح به الإنسان.