تفسير قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى الأرض كيف سطحت)
قال تعالى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: ١٧]، هذا استئناف مسوق لتقريب ما فصل من حديث الغاشية، وما هو مدلول عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون للاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره، لكن ما علاقة هذه الآيات بالتي قبلها؟ إن الآيات السابقة فيها إخبار عن الغاشية ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية: ١]، وبيان حال أصحاب الجنة، وحال أصحاب النار، وهذا كله مبني على الإيمان بالبعث والنشور، والدار الآخرة، والحساب والجزاء، والكفار ينكرون البعث، فالله سبحانه وتعالى يوجه أنظارهم إلى الإيمان به عز وجل وبقدرته على الخلق، وهذا سيلزمهم بالإيمان بالبعث والنشور، وأحوال أهل الجنة، وأحوال أهل النار، فدلّهم إلى الإيمان بالله عن طريق أدلة محسوسة لا يستطيعون إنكارها؛ لأنها مشاهدة؛ فلذلك قال: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾، (أَفَلا) الهمزة: للإنكار والتوبيخ، والفاء: للعطف على مُقدّر يقتضيه المقام.
((أَفَلا يَنْظُرُونَ)) يعني: أينكرون ما ذُكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل؟! أفلا ينظرون إلى الإبل -التي هي نصب أعينهم ويستعملونها كل حين- كيف خُلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات؟! فالإبل فيها أشياء اختصت بها دون سائر الحيوانات، من عِظَم جثتها، وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة لحمل الأشياء الثقيلة، وجرّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة - البعيدة-، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إن إظماءها لتبلغ العشر فصاعداً، واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم، فأنت ترى الإبل ترعى ما تيسر من أنواع النبات، فهذه من خصائصها.
وأيضاً انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والجلوس والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، وهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، فإن الجمل على رغم قوته الشديدة، إلا أنه يقوده طفل صغير أو رجل ضعيف أمامه! فالله سبحانه وتعالى يذلله ويسخره للإنسان.
﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ [الغاشية: ١٨] السماء التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار، ((كَيْفَ رُفِعَتْ)) أي: رفعت كواكبها رفعاً سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكاً لا يختل سيره، ولا يفسد نظامه.
﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ [الغاشية: ١٩] الجبال التي ينزلون في أقطارها، ((كَيْفَ نُصِبَتْ)) أي: أقيمت منتصبة، فلا تبرح مكانها حفظاً للأرض من الميلان.
﴿وَإِلَى الأَرْضِ﴾ [الغاشية: ٢٠] التي يضربون فيها ويتقلبون عليها، ﴿كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: ٢٠] أي: بُسطت ومُهّدت حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق.
قال الزمخشري: والمعنى: أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق؛ حتى لا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤمنوا به ويستعدوا للقاء الله تبارك وتعالى.


الصفحة التالية
Icon