تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود بطغواها ولا يخاف عقباها)
قال الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [الشمس: ١١ - ١٥].
قوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾ الباء هنا سببية، أي: بسبب طغيانها ومجاوزتها الحد في الفجور، والطغوى مصدر، ويجوز أن يراد به العذاب نفسه، يعني: كذبت بالعذاب على حذف المضاف، أي: كذبت بما وعدت به من عذابها بالطغوى كقوله: ﴿فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ [الحاقة: ٥] فالطغوى التجاوز عن الحد والزيادة من العذاب.
قوله: ﴿إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ إذ هنا ربط بين (كذبت ثمود بطغواها) وبين مقام أشقى ثمود، وهو عاقر ناقة صالح عليه السلام، وكانوا نهوا عن قربها بسوء، وأنذروا عاقبة المخالفة، قال الله: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء: ١٥٥].
وأشقاها هو قدار بن سالف، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه مثل أبي زمعة) رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم.
قوله: ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾ يعني: صالح عليه السلام.
وقوله: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ أي: احذروا واتقوا ناقة الله التي جعلها آية بينةً، واحذروا أيضاً سقياها يعني: شربها الذي اختصها الله به في يومها.
وكان عليه السلام تقدم إليهم عن أمر الله أن للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم آخر غير يوم الناقة، كما بينته آية الشعراء: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٥٥ - ١٥٦] أي: لا تؤذوا الناقة ولا تتعدوا عليها في شربها ويوم شربها.
قوله: ((فَكَذَّبُوهُ)) أي: فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا، ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ يعني: قتلوها، وأصل العقر ضرب قوائم البعير أو الفرس بالسيف وهو قائم، ثم استعمل في القتل والهلاك؛ وذلك أنهم أجمعوا على منعها من الشرب، ورضوا بقتلها، وبسبب رضا جميعهم عن قتل قاتلها، وعقر من عقرها؛ نسب التكذيب والعقر إلى جميعهم، فالفاعل في قوله: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) ضمير جمع مع أن الفاعل واحد، لكنه عقرها بتواطؤ ورضا الجميع.
قوله: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ﴾ أي: أهلكهم وأبعدهم بسبب كفرهم به وتكذيبهم رسوله، وعقرهم ناقته؛ استهانة به واستخفافاً بما بُعث به، وقيل: دمدم يعني: أطبق عليهم العذاب، وقيل: الدمدمة حكاية صوت الهرة.
قوله: ﴿فَسَوَّاهَا﴾ أي: فسوى الدمدمة عليهم جميعاً فلم يفلت منهم أحد، بمعنى: جعل الله سبحانه وتعالى الدمدمة سواء عليهم، فتساووا في أن أصابتهم هذه الدمدمة ولم يفلت منهم أحد، أو (فَسَوَّاهَا) الضمير لثمود يعني: جعلها عليهم سواء، وقال المؤرِّج: الدمدمة إهلاك باستئصال.
قوله: ﴿وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ أي: لا يخاف تبعة إهلاكهم.
والفاعل هنا فيه أقوال: القول الأول: يخاف الله سبحانه وتعالى العقبى، أي تبعة هذا الإهلاك، هل هناك غالب يغالب الله؟! الكفار هم أحقر الخلق عند الله، ولا وزن لهم عنده، فأهلكهم.
فقوله: ﴿وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ يعني: لا يخشى تبعة إهلاكهم؛ لأنه سبحانه وتعالى العزيز الذي لا يغالب، قال الله: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣]، وقال: ﴿لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ [الرعد: ٤١] وقيل: لا يخاف الله عاقبتها كما يخاف الملوك عاقبة ما يفعلون، وهذا لأهانتهم وبيان أنهم أذلاء عند الله تبارك وتعالى، فالضمير في (يخاف) لله وهو الأظهر، ويجوز عوده لصالح عليه السلام، يعني: أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم.
وقيل: الضمير للأشقى الذي عقر الناقة، أي: أنه لا يخاف عاقبة فعله الشنيع.
إذاً: الأشقى لا يخاف عقباها؛ فهو أقدم على هذا الفعل وهو لا يخشى عاقبته؛ لأنه كان يكذب الوعيد الذي تهددهم به صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو لا يخاف عاقبة ما صنع، والواو هنا للحال أو للاستئناف، أي أنه: لا يخاف عقباها حال عقره للناقة.
قال الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة: والمقصود أن الآية أوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلال والكفر عن علم ويقين، ولهذا -والله أعلم- ذكر قصتهم من بين قصص سائر الأمم.
قال الله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ٥٩]، وقال: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ﴾ [فصلت: ١٧].
يقول ابن القيم: ولهذا -والله أعلم- ذكر الله قصتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)؛ لأنه ذكر فيها انقسام النفوس إلى النفوس الزكية الراشدة المهتدية، وإلى الفاجرة الضالة الغاوية.
وذكر فيها الأصلين القدر والشرع، فقال: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) فهذا قدره وقضاؤه، ثم قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) وهذا أمره ودينه.
فثمود هداهم الله كما في سورة فصلت: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: ١٧]؛ فذكر الله قصتهم ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى والتدسية على التزكية.
لكن لماذا خصت سورة الشمس بذكر قصة ثمود دون غيرهم من الأمم المهلكة؟
ﷺ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه السورة انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة، وإلى الغوية الضالة: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) وذكر فيها الخبر والشرع، الخبر في قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) والشرع في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) فهذا أمره ودينه، فثمود هداهم الله، كما قال الله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) يعني: بينا لهم كل شيء (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) فذكر قصتها ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى، والتدسية على التزكية، والله تعالى أعلم.