تفسير قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى)
قال عز وجل: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى﴾ [الضحى: ٣ - ٤].
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)، فخير تأتي مصدراً كقول الله سبحانه والله: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: ١٨٠]، قوله: (ترك خيراً) يعني: مالاً كثيراً بمعنى المصدر، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة بمعنى أخير.
وهي هنا أفعل تفضيل: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ) والدليل هنا على أنها أفعل تفضيل قوله: (من).
مما يدل على أن الله سبحانه وتعالى أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة، وما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا، فيتوهم بعض الناس من الآية: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)، أن الآخرة خير له ﷺ وحده من الأولى.
فجاء النص يدل على أن هذا ليس خاصاً بالنبي ﷺ وحده، بدليل قوله تبارك وتعالى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران: ١٩٨]، أي: للأبرار من المؤمنين، وكما قال تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٣] وقال تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان: ٥].
أما بيان الخيرية هنا لرسول الله ﷺ ففيها بيان ثواب الخيرية له في الدنيا، ثم الأفضل منها هو ما يكون في الآخرة، وصيغة أفعل التفضيل تأتي للمفاضلة بين طرفين يشتركان في أصل الوصف، بل إن أحدهما يزيد على الآخر، حينما تقول: علي أقوى من حسن، يعني: كلاهما مشترك في صفة القوة، لكن الأول أقوى من الثاني في هذه الصفة، فكذلك قوله: (خير لك من الأولى) تتضمن أن الدنيا خير له أيضاً، لكن الآخرة أفضل وأخير له من الأولى.
فأما الخيرية التي آتاه الله إياها في الدنيا، فأشار إليها القرآن الكريم في هذه السورة وفي التي بعدها، ففي هذه السورة قال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ [الضحى: ٦] يعني: تعهده الله سبحانه وتعالى منذ ولادته ونشأته ﷺ فصانه عن دنس الشرك وطهره، وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش صلى الله عليه وسلم، حتى روي أن عمه قال عند خطبته خديجة له صلى الله عليه وسلم: فتى لا يعادله فتى من قريش حلماً وعقلاً وخلقاً إلا رجح عليه.
كذلك قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: ٧ - ٨] فهي نعم يعددها الله سبحانه وتعالى عليه، وهي من أعظم خيرات الدنيا من صغره إلى شبابه وكبره.
ثم اصطفاؤه بالرسالة، ثم حفظه من الناس: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧].
ثم نصره على الأعداء، وإظهار دينه وإعلاء كلمته.
أيضاً من الناحية المعنوية، قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ١ - ٤].
أما خيرية الآخرة على الأولى، فهي في قوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: ٥]، يعني في الآخرة، وليس بعد الرضا مطلب.
وفي الجملة فإن الأولى دار عمل وتكليف وجهاد، والآخرة دار جزاء وثواب وإكرام، فهي لا شك أفضل من الأولى.
قال ابن جرير: أي: وللدار الآخرة وما أعد الله لك فيها خير لك من الدار الدنيا وما فيها.
ثم يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها.
وقال القاضي: (وَلَلآخِرَةُ) يعني: لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنه ﷺ لا يزال يتصاعد بالرفعة والكمال.