كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: (والتين والزيتون وهذا البلد الأمين)
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه كتاب: (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح)، وهذا الكتاب من روائع شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو كتاب جدير أن يفنى العمر في دراسته؛ لأنه كتاب قيم جداً، ومن أروع الكتب في هذا الفن، والأمريكان من اهتمامهم بهذا الكتاب ترجموه، وتوجد منه نسخة في مكتبة الكونجرس باللغة الانكليزية، مع أن منا من لم يره أصلاً -فضلاً عن أن يقرأه أو يبحث فيه- فليعلم أن هذا الكتاب من أروع الكتب، وأكثر من ألّف في بحث عقيدة النصارى إنما كان عالة على هذا الكتاب.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فصل: شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول: وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: جاء الله من طور سيناء.
وبعضهم يقول -في الترجمة-: تجلّى الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران.
قال كثير من العلماء -واللفظ لـ أبي محمد بن قتيبة -: ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سيناء: إنزاله التوراة على موسى من طور سيناء، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير -أرض الخليل- بقرية تدعى: ناصرة، وباسمها يسمى من اتبعه: نصارى.
وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران: إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبال فاران هي جبال مكة.
قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادّعوا أنها غير مكة، فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم.
قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟! وقلنا: دلّونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران؟! والنبي الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح؟! أوليس (استعلن) و (عَلِنَ) هما بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف؟! هل تعلمون ديناً ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟ إن استعلن هي: الظهور والإعلان والانتصار الكبير، وهذا ليس إلا من ملة الإسلام.
وقال أبو هاشم بن ظفر: (ساعير) جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح عليه السلام.
قلت -القائل: ابن تيمية -: وبجانب بيت لحم -القرية التي ولد فيها المسيح- قرية تسمى إلى اليوم: ساعير ولها جبال تسمى: جبال ساعير وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقاً، جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه، ومنه كان نزول أول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وحوله من الجبال جبال كثيرة.
وجبل النور أو الجبل الذي فيه غار حراء شكله مميز جداً، حيث ترى المنظر في قبة الجبل كأن الجبل مُنطوٍ يستقبل شيئاً من السماء.
ثم يقول ابن تيمية رحمه الله: (وذلك المكان يسمى (فاران) إلى هذا اليوم، وفيه كان ابتداء نزول القرآن، والبرية التي بين مكة وطور سيناء تسمى: برية فاران، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني، فذكر إنزال التوراة، ثم الإنجيل، ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه.
وقال في الأول: جاء أو ظهر، وفي الثاني: أشرق، وفي الثالث: استعلن.
وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى، وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء، ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران.
فإن النبي ﷺ ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها؛ ولهذا سماه الله (سراجاً منيراً)، وسمى الشمس (سراجاً وهاجا).
والخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، بل قد يتضررون به في بعض الأوقات، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان، ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زُويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها) اهـ.
ونحن نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرجح القول بأن قوله: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ [التين: ١] أن القسم هو بالمكان الذي ينبت فيه التين والزيتون، وأيضاً: ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ [التين: ٢] مكان، ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: ٣] مكان أيضاً.
وذلك يتضح من قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد الكلام السابق: (وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله بها في القرآن في قوله: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: ١ - ٣] الآيات.
فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل، وأقسم بطور سيناء، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، وناداه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بهذا البلد الأمين، وهو مكة، وهو البلد الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه هاجر فيه، وهو الذي جعله الله حرماً آمناًَ ويتخطف الناس من حولهم، وجعله آمناً خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً.
ثم قال شيخ الإسلام في بسط هذه الآيات الثلاث: فقوله تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: ١ - ٣]؛ إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة، التي ظهر فيها نوره وهداه، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران.
ولما كان ما في التوراة خبراً عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق).
إذاً: التوراة جاءت في الترتيب الزماني الأول، حيث بدأ بها بقوله: جاء الله من طور سيناء.
أي: رسالة موسى، وأشرق من ساعير.
أي: رسالة عيسى، واستعلن من جبال فاران.
أي: رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم قال شيخ الإسلام: (وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها؛ وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وتعالى وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فختمها بأعلى الدرجات.
فأقسم أولاً بالتين والزيتون، ثم بطور سينين، ثم بمكة؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة: القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل).
والتوراة أعظم وأهم بكثير من الإنجيل؛ لأن الإنجيل جاء مكملاً ومتمماً فقط، كما قال عيسى: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ٥٠] إلى آخر الآيات.
لكن الشريعة كاملة كانت في التوراة، فانظر إلى هذه الدقة؛ لأن السياق في القرآن سياق تعظيم لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فبدأ بها حسب دلالتها، فقوله: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ [التين: ١] هذه رسالة عيسى، ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ [التين: ٢] رسالة موسى عليه السلام، ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: ٣] القرآن الذي أوحاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال شيخ الإسلام: وكذلك الأنبياء، فأقسم بهم على وجه التدريج حسب مقامهم، فهذا كقوله تعالى: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾ [الذاريات: ١ - ٤].
فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة، فأقسم بالرياح الذاريات، ثم بالسحاب الحاملات للمطر، فإنها فوق الرياح، ثم بالجاريات يسراً، وقد قيل: إنها السفن، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ [التكوير: ١٥ - ١٦].
انتهى كلامه رحمه الله.
(فالمقسمات أمراً): هي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.