كلام الشيخ عطية سالم في قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله)
يقول العلامة الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)): وهذا لا يستوجب التفرق في أمره صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن القرآن العظيم أن هذا الأمر موجود في كل كتبه يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦]، وقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣].
وقال تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ [البقرة: ٤٠ - ٤١] إلى آخر الآيات.
فهذه الأوامر سواء كانت في كتبهم أو في القرآن فإنها لا تقتضي التفرق، بل تستوجب الاجتماع والوحدة.
قوله تعالى: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) القيمة: فيعلة من القوامة، وهي غاية الاستقامة، وجاء بعده قوله: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣] أي: مستقيمة بتعاليمها.
وبين الله سبحانه وتعالى أن القرآن الكريم هو أقوم الكتب وأعدلها على الإطلاق في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩]، وقال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا﴾ [الكهف: ١ - ٢] فنفى عنه العوج، وأثبت له الاستقامة، فهذه غاية القيام، فإن المستقيم قد يكون فيه انحناء كالطريق المعبد المستقيم عن المرتفعات والمنخفضات، لكنه قد ينحرف تارة يميناً وشمالاً مع أنه مستقيم، إذن فقد يكون الشيء مستقيماً لكن لا يخلو من العوج، لكن أكمل الأحوال أن ينتفي عنه العوج وتثبت له الاستقامة، فهو الطريق الذي يمتد في اتجاه واحد بدون أي اعوجاج إلى أي الجانبين، مع استقامته في سطحه، وهكذا هو القرآن، فهو الصراط المستقيم، ولذلك قال تعالى: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) أي: دين الملة القيمة، فهي قيمة في ذاتها، وقيمة على غيرها ومهيمنة عليه، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: ٣٠]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦١ - ١٦٣].
وفي قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى فيها: إن في هذه الآية رداً صريحاً على أولئك الذين ينادون بدون علم إلى دعوة لا تخلو من تشكيك، حيث لم تسلم من لبس، وهي دعوة وحدة الأديان، ومحل اللبس فيها أن هذا القول منه حق ومنه باطل.
أقول: والصواب أن نقول: وحدة الأديان بالكسر أي: أن الدين واحد، وأما وَحدة الأديان بالفتح فمعناها أن هناك أديان مختلفة ثم توحدت مع بعضها، وهذا غلط.
فالحق أن هذه الدعوة فيها شيء من الحق، وفيها تلبيس وباطل، فأما الحق فهو أن هذه الأديان كلها في الأصل دين واحد، فوحدة الأديان أي: وحدة أصولها، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] فهذا جوهر جميع الرسالات السماوية.
لذلك، فالصواب أن يقال: الرسالات السماوية، ولا يقال: الديانات السماوية؛ لأن الدين واحد، فجميع الأنبياء دعوا إلى دين واحد ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] فهو دين واحد، وإلا فكيف تكون كلها سماوية وهي يضرب بعضها بعضاً؟ فكيف تكون الأديان متضاربة ومتناقضة وقد نزلت من مصدر واحد؟! فجميع الأنبياء دعوا إلى دين واحد، وهو دين الإسلام، ودين الإسلام مكون من جملتين: لا إله إلا الله، فلان رسول الله، فجميع الأنبياء من آدم عليه السلام وحتى خاتمهم وهو محمد عليه الصلاة والسلام كلهم دعو إلى: (لا إله إلا الله) نفس الإله، وأمروا بعبادته وبالإيمان وبالقضاء والقدر، والإيمان بالملائكة، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالبعث والنشور، فهذه أمور ثابتة في جميع رسالات الأنبياء عليهم السلام.
والشق الثاني: نوح رسول الله مثلاً، وهذا في عهد نوح عليه السلام، ففي عهد نوح كانت النجاة بأن يشهدوا هاتين الشهادتين أي: لا إله إلا الله نوح رسول الله، وفي عهد موسى: لا إله إلا الله موسى رسول الله.
فلا يصح أن تؤمن وتعبده دون أن تؤمن بالرسالات؛ لأن معرفة ما يرضي الله، وما يقرب من الله، وما يبعد عن الله لا يصل إليها العقل بمفرده، بل لا بد فيها من الوحي، فهو الذي يبين ذلك؛ لأن العقل لا يدرك المعاني التعبدية في كثير من الأحيان، فالبتالي فكلمة النجاة ألّا تعبد إلا الله وفق ما يشرعه لك على لسان نبيه ورسوله، فإن معنى: محمد رسول الله، أو نوح رسول الله، أو عيسى رسول الله معنى ذلك: أن تتبع هؤلاء الرسل لا أن تتبعوا وتخترعوا من تلقاء أنفسكم.
فهذه كانت كلمة النجاة، وأما الفرق بين الأديان فهو اختلاف في بعض الشرائع: في أحكام الطلاق والزواج، وتفاصيل بعض العبادات، وأما التوحيد فهو جوهر جميع الرسالات، وكل الأنبياء دعوا إليه، وهذه الحقيقة هي أنصع وأطهر وأهم حقيقة في الوجود كله وهي: لا إله إلا الله، فما خلق الخلق كلهم إلا من أجل لا إله إلا الله، وما بعث الأنبياء إلا من أجل لا إله إلا الله، وما خلقت الجنة والنار إلا من أجلها، وما شرعت فريضة الجهاد إلا من أجلها، وما شرع الحلال والحرام إلا من أجلها، وما قسم الناس إلى أهل الجنة وأهل النار إلا على أساسها وهكذا، فهي إذن محور الحياة كلها، ولذلك ذكرت في مناسبة سابقة أن التفسير الوحيد الصحيح للتاريخ هو أن يفسر على أنه صراع بين أهل التوحيد وبين مناوئيهم من المشركين والكفار، فهذا هو التفسير الحقيقي، وليس كما يقولون: إن الصراع إنما هو بين طبقات حاقدة من الفقراء وبين البرجوازيين، كما هو معروف من خرافات الشيوعية، أو أنه من أجل صراع سياسي، أو صراع من أجل الشهوات كما ذهب إليه بعضهم.
فالشاهد: أن المحور الحقيقي للتاريخ منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إنما هو صراع بين الإسلام والكفر، فهذا هو التفسير الوحيد المقبول في التاريخ، ويجب أن ينظر إلى الموضوع من هذا المحور، وليس كما يقول بعضهم: إن أحداث الدنيا كلها من أجل الدنيا، وفي هذا الزمان الذي نعيش فيه نرى الصراع واضحاً بين الإسلام والكفر، فمن الخداع أن يصور بصورة أخرى خلاف ذلك، بل من العدوان على الحق وغمطه أن يسوى بين الكفر والإسلام، ولو زال الحد الفاصل بين الإسلام والكفر: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] لاختلت الموازين، فهذا ياسر عرفات يقول لزوجته لما أرادت أن تدخل في الإسلام وقد كانت نصرانية: لا، ليس هناك داعٍ، فالكل شيء واحد، فلتبقِ على النصرانية؛ فإنها والإسلام سواء، فعنده أن كل الأديان شيء واحد.
فالشاهد هذا تشويش على الإسلام وخصوصاً إذا صدر من أناس لهم ثقلهم في العلم أو في الإسلام، فهذه القضية لا تحتمل مساومة على الإطلاق.
فهذا الذي يدعون إليه يعتبر جناية في حق البشرية، فطالما قررتُ أن أعظم حق، وأول حق، وأهم حق من حقوق الإنسان -لمن عقل- هو ألّا يحال بينه وبين الإسلام كما أنزله الله، وأعظم جريمة ترتكب في حق الإنسان ليست أن يستعبد، ولا أن يعذب، ولا أن تؤخذ أمواله، لا، بل هي أن يحال بينه وبين الدخول في الإسلام بالتشويش على الإسلام، ووصف المسلمين بالإرهابيين، ووصف الإسلام بأنه دين التطرف، وغيرها من عبارات التنفير، فهذه أكبر جريمة في حق البشرية كلها وخصوصاً الكفار؛ لأنهم إذا حرموا من هذه النعمة فسوف يخلدون أبد الآباد في نار جهنم، فأي جريمة في حق الإنسان أكثر من أن يحال بينه وبين سعادة الدارين في الدنيا والآخرة؟! إذاً: فأصحاب هذه الدعوى يتسترون ويقولون: الأديان الإبراهيمية، وهي كلمة حق، لكننا لا نسميها أدياناً، بل إن ملة إبراهيم عليه السلام دين واحد، وهو دين الإسلام.
فكأنه من هذه الآية: ((وَمَا أُمِرُوا)) أي: كل هؤلاء الكفار، وما أمروا سواء كان في كتبهم أو جاء به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا الأمر لا يقبل التصرف ولا الاختراع ((إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) وحده ((مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) بلا شرك ولا ند، ((حُنَفَاءَ)) كما كان إبراهيم، ((وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) وأما الباطل في دعوة الأديان الإبراهيمية أو توحيد الأديان فهو الإبهام بأن هذا ينجر على الفروع مع الجزم عند الجميع؛ لأن فروع الإسلام قد لا تتفق كلها مع فروع الدين الآخر، كالصلاة والصيام إلى آخره.
فالذي جاء به القرآن هو دين القيمة ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) فالإسلام هو الدين القيم، والقرآن يهدي للتي هي أقوم، وليست كلمة (أقوم) أفعل تفضيل، فلا يمكن أن يص