تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى﴾ [البقرة: ٢٦٢].
قوله عز وجل: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ))، لا يعقبون ما أنفقوا مناً ولا أذى، هنا عبر الله سبحانه وتعالى: بـ (ثم) ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى﴾، هل (ثم) هنا على بابها على التراخي وتباعد الأزمنة؟
ﷺ لا، ليست لتباعد الأزمنة، لكن استعيرت (ثم) هنا من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، أو لإظهار التفاوت بين الإنفاق وبين ترك المن والأذى، فالسياق هنا يأبى حملها على الطرفين، والمقصود هنا: تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، ولإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى، وفي قول آخر: أن ثم لا تخرج عن الإشعار ببعد الزمن، يعني: عنصر التفاوت الزمني موجود، لماذا التفاوت الزمني؟ المقصود: الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء زمان بقائه، وهو هنا ليس لتراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، لكن لدوام وجود الفعل وتراخي زمان بقائه، يعني: أنهم ينفقون أموالهم (ثم لا يتبعون) بل يستمرون على نفقة المال محصنين هذه الصدقة من المن ومن الأذى، متمادين في ذلك إلى النهاية، حتى يلقوا الله سبحانه وتعالى دون أن يفسدوا صدقاتهم بالمن والأذى، فمعناها: ليس لتراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، ولكن معناها: دوام وجود الفعل، وتراخي زمن بقائه، وعليه حمل قوله تعالى: (ثم استقاموا)، إذ معناها داوموا على الاستقامة دواماً متراخياً ممتداً، وتلك الاستقامة هي المعتبرة، لا ما هو منقطع إلى ضده من الميل إلى الهوى والشهوات، فالمقصود بذلك الثبات حتى الممات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت: ٣٠] يعني: ثبتوا على ذلك إلى الموت، وإلى الخاتمة الحسنة.
والسين في قوله: (ثم استقاموا) للتنفيس، ففيها تنفيس ومد، كقوله: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: ٩٩]، في حين أنه قال في سورة الشعراء: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨]، فقطع أن الله سبحانه وتعالى يهدي؛ لكن المقصود هنا دوام الاهتداء، واستصحابه إلى النهاية؛ كذلك قوله: ((ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى)) يعني: يداومون على تناسي الإحسان وترك الاعتداد به والامتنان، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الأذية وتقليد المنن بسببه ثم يتوبون، لا، بل هم مستمرون على ستر صدقاتهم، أو المحافظة عليها وصيانتها من المن والأذى، لا ينقضون ذلك بمن ثم يتوبون منه، بل هم لا يرتكبون أصلاً المن والأذى.
((ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا)) أي: لا يعقبون، ((مَا أَنفَقُوا مَنًّا)) مناً على المنفق عليه، وهو ذكره لمن أنفق عليه ليريه أنه أوجب بذلك عليه حقاً، والواجب أن يكون المنفق مخلصاً ﴿لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ [الإنسان: ٩]؛ لكن إذا منّ عليك، فمعنى ذلك أنه يريد حقاً في مقابلة صدقته؛ ((ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى))، الأذى يكون بذكر ذلك لغيره، والمن أن تمن على الشخص الذي أنفقت عليه نفسه، والأذى أن تخبر غيره بأنك مننت عليه، وذلك مما يؤذيه، وهو يكره أن يعرف الناس أنك أديت إليه ذلك المعروف.
﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ يعني: ثواب إنفاقهم الموعود به من قبل وهو المضاعفة.
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، (لا خوف عليهم) فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، ((وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) على فائت من زهرة الدنيا؛ لصيرورتهم إلى ما هو خير من ذلك، وهذا كله في الآخرة.