تفسير قوله تعالى: (الذي جمع مالاً وعدده)
قال تعالى: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾ [الهمزة: ٢].
يلاحظ أن الله عز وجل أظهر هنا المال في موضع الإضمار فقال عز وجل: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾ [الهمزة: ٢] فكرر كلمة المال، مع أن السياق يقتضي أن يقول: يحسب أنه أخلده، فتعود الهاء على (مالاً)، لكن هذا التكرار لعلة وحكمة، قال بعض العلماء: إن المقصود بتكرار كلمة المال زيادة التقرير، وللتقريع والتوبيخ.
وقيل: في الآية تعريض بالعمل الصالح، فالمال لا يخلد صاحبه، لكن العمل الصالح هو الذي يخلد الإنسان، وينبغي للعاقل أن يكب عليه، ويسعى للآخرة حيث الخلود الحقيقي، فتكرار كلمة المال للتعريض بأن المخلد الحقيقي ليس هو المال، وإنما هو العمل الصالح الذي يخلد صاحبه في الجنة، فهذا الحسبان المذموم هو المنصب عليه الوعيد، فإن هذا الشخص لا يؤمن بالبعث ولا يوقن به كما قال صاحب الجنة -وهو سلفه من قبل-: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا﴾ [الكهف: ٣٥] يعني: غير معقول أن هذه الجنان وهذا المتاع وهذا النعيم ليبيد أبداً.
يقول الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا﴾ [الكهف: ٣٥ - ٣٦]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه، الذي ضر به مثلاً مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء، أنه دخل جنته في حال كونه ظالماً لنفسه، وقال: إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى؛ لما رأى من حسنها ونضارتها، وقال: إنه لا يظن الساعة قائمة، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيراً من الجنة التي أعطاه في الدنيا، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضاً بالمال والولد كما أنعم عليهم في الدنيا، جاء مبيناً في آيات أخر كقوله في سورة فصلت: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ [فصلت: ٥٠]، وقوله في سورة مريم: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ [مريم: ٧٧ - ٧٨]، وقوله في سبأ: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: ٣٥]، وقوله في هذه السورة الكريمة: ﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: ٣٤]، وقوله: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ [الهمزة: ٣].
وبين جل وعلا كذبهم واغترارهم فيما ادعوه من أنهم يجدون نعمة الله في الآخرة كما أنعم عليهم بها في الدنيا في مواضع كثيرة كقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٥ - ٥٦].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) يعني: لييسره للعسرى حتى يستحق مزيداً من العذاب نتيجة المزيد من كفران النعم؛ يقول عز وجل: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٢].
وقال عز وجل: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٢ - ١٨٣]، وقوله عز وجل: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨]، وقال عز وجل: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ [سبأ: ٣٧]، وقال عز وجل: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد: ٢]، فهذا المال الذي جمعه وعدده، وكان زينته في الدنيا، هو الذي صرفه عن التفكر في المآل وفي المصير، ودفعه إلى الهمز واللمز واحتقار خلق الله، يقول الله عز وجل: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد: ٢]، ويقول عز وجل إن هذا الظالم يقول يوم القيامة: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٨ - ٢٩].
روى أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب)، هو لا يكذب، فهو رأى، لكن لا يذكر ذلك، بل ينساه بمجرد أن صبغ في الجنة صبغة، بل يحلف إنه ما رأى بؤساً ولا شدة قط، نسأل الله يجعلنا منهم.