تفسير قوله تعالى: (كلا لينبذن في الحطمة)
قال تعالى: ﴿كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾ [الهمزة: ٤] أي: ليطرحن في جهنم التي من أسمائها الحطمة؛ لأنها تحطم وتأكل ما ألقي فيها، كما يقال في وصف الرجل الأكول: كأنما في جوفه تنور، يعني: فرن، فهو يهضم الطعام في الحال، ويطلب المزيد والجديد.
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ هذه الآية: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ)) بالتثنية: (لينبذان) يعني: هذا الهمزة وماله سينبذان في النار، كما قال عز وجل: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد: ٢] يعني: لا يغني عنه هذا المال، وقال تعالى حاكياً عنه: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٨ - ٢٩].
قال ابن الجوزي: ((الْحُطَمَةِ)) اسم من أسماء جهنم؛ سميت بذلك لأنها تحطم كل ما يلقى فيها، أي: تكسره، فهي تكسر العظم بعد أكلها اللحم، وقال الضحاك: ((الْحُطَمَةِ)) الدرك الرابع من النار؛ وقال الكلبي: الطبقة الثالثة من جهنم، وقال الواحدي: باب من أبواب جهنم؛ وقال مقاتل: هي تحطم العظام، وتأكل اللحوم، حتى تصل إلى القلوب والعياذ بالله.
ووزن حطمة فُعَلة، وهذا يكون لتنزيل الفعل مكانه الطبيعي، فالنار عادتها أنها تحطم وتأكل.
قال القرطبي: سميت بذلك؛ لأنها تكسر كل ما يلقى فيها وتحطمه وتهشمه؛ قال الراجز: إنا حطمنا بالقضيب مصعباً يوم كسرنا أنفه ليغضبا فالحطم يستعمل في كل كسر متناه، يعني تكسر الشيء إلى أقصى مدى من التكسير، فالحطم هو التكسير المتناهي البليغ.
وقوله: ((كَلَّا)) (كلا) في القرآن تأتي بمعنى حقاً أو تأتي بمعنى لا للنفي، يقول الألوسي: ((كَلَّا)) ردع له عن ذلك الحسبان الباطل، أو ردع عنه وعن جمع المال، يعني: لا تحسب أن مالك مخلدك، أو ((كَلَّا)) يعني: لا تجمع المال، فهو ردع له عن حبه المفرط، واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز، وهذا بعيد؛ لأن القريب هو جمع المال.
وقوله: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ)) يفسره قوله تعالى: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ [القارعة: ٩] أي: ينبذ نبذاً فيهوي على أم رأسه عياذاً بالله من ذلك.
إذاً: ((الْحُطَمَةِ)) اسم من أسماء النار؛ سميت بذلك لأنها تحطم -أي: تكسر وتهشم- كل ما يلقى فيها تكسيراً بليغاً متناهياًَ، ويقال أيضاً: شر الرعاء الحطمة، ويقال: راعي حطمة، وهو الذي يحطم الماشية، لأنه يسوقها سوقاً عنيفاً، ويسيء معاملتها وقيادها، فكأنه يكسرها فسمي: الحطمة.
والنبذ فيه معنى الإلقاء والطرح، فهذا يفيد أن لها قعراً عميقاً جداً، وقد جاءت أدلة كثيرة من السنة تدل على هذا الوصف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله ﷺ إذ سمع وجبة -يعني: صوت وقع الشيء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم؛ قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار، الآن حيث انتهى إلى قعرها).
أيضاً لفظ النبذ يدل على الإهانة؛ لأن الكافر كان يعتقد أنه من أهل الكرامة كما قال الله: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ [الفجر: ١٥]، وقال سبحانه: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩]، فالكافر يظن أن إعطاء المال له والتوسيع عليه في الدنيا يقتضي كرامته على الله عز وجل في الآخرة، فالله عز وجل يقول: ((كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ)) فيعامل بنقيض قصده وبنقيض اعتقاده؛ لأن كلمة النبذ معناها الطرح والرمي والإلقاء، قال تعالى: ﴿فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ [القصص: ٤٠]؛ ومنه النبيذ؛ لأنك تنبذ التمر -مثلاً- في الماء، فيكون عصيراً، فإذا أسكر فهو محرم، أما إذا لم يسكر فيطلق عليه نبيذ، وهذا في اللعنة وإن كانت الآن عرفاً تطلق على المسكر، وهو محرم بلا شك؛ والمقصود أنه سمي نبيذاً لأنك تنبذ وترمي فيه التمر، وولد الزنا يسمى منبوذاً؛ لأنه ينبذ ويرمى على الطريق.
قال أبو الأسود: وخبرني من كنت أرسلت أنما أخذت كتابي معرضاً بشمالك نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً أخلقت من نعالك وقال آخر: إن الذين أمرتهم أن يعدلوا نبذوا كتابك واستحلوا المحرم